حرية شاعر


*مريم الساعدي

أضحك كلما سمعت خبر اعتقال شاعر، أضحك لأنها حركة هزلية، لا تبدو حقيقية، لا يمكن أن تكون كذلك، فنحن في الألفية الثالثة بعد الميلاد، وليس قبله!. وأتساءل حقاً كيف يتوقف الزمن في بعض أجزاء هذه الكرة الأرضية على الرغم من الثورة التكنولوجية، كيف يتمكن البعض من أن يقفل بالمتاريس الثقيلة كل أبواب عقله!

يأخذون الشاعر، يجلسونه أمام المحقق، يحضرون ديوان شعره، يقلبون في صفحاته، ينبشون في كلماته، يسألونه «هل تعرف الله؟»، «هل تحب الله؟»،« ما هي علاقتك بالله؟»، «متى آخر مرة صليت فيها؟» و«كيف تصلي؟». يحضرون أداة قياس، يضعون بدايتها على قلب الشاعر، ويصعدون بنهايتها إلى السماء ويقيسون حجم المسافة بين السماء وقلب الشاعر، وإذا نبض قلب الشاعر فسقط المقياس قالوا «كافر»؛ في إعادة عصرية لمحاكم التفتيش الكنسية في عصور الظلام يخضع الشاعر والتشكيلي الفلسطيني أشرف فياض، منذ أسابيع لعملية تحقيق دقيقة حول ديوانه الشعري المعنون بـ« التعليمات بالداخل» والصادر عن دار الفارابي عام 2007. بعد سبع سنين على نشر الديوان قرر الرقيب أن الوقت قد أزف لفك طلاسمه الشعرية وحماية البشرية من فجور محتمل ودمار متوقع وكفر قد يكون متخفياً بين السطور؛ يخافون من كلمة، من فكرة، من ديوان شعر وضع فيه الشاعر أحلامه، خيبات أمله، إحباطاته، تأملاته، أرقه وسهره، هوانه على الدنيا، سير هذا العالم، وتفكره في شؤون الحياة. يظن المحقق أنه يفهم في الكلمات، أنه أكبر من الكلمات، أن لديه المفتاح السحري لفك المعاني الشعرية والتراكيب اللغوية، أن هذه الحيل اللفظية لن تنطلي عليه، أنه يعرف النيّة وراء هذا البيت، وذلك الشطر، وتلك القصيدة. ويؤمن أنه حارس الفضيلة، مقاوم الرذيلة، الواقف بصمود على بوابة السماء، وأنه العليم بالنوايا وما تخفي الصدور. نفس هذا المحقق لو سأله الشاعر «هل تحب زوجتك» لاعتبرها إهانة وانتفض ورفض الإجابة نظراً لخصوصية السؤال. فحب الزوجة للقلب وحب الرب للشعــب. بهكذا منطق يتعاملون مع الإبداع، ظانين أن لديهم تفويضاً إلهياً بالتفتــيش في قلوب البشر عن وجود الرب، يبحثون عن الرب في قلبك، يدققون فيك، في خلايا فكرك، في مسام روحك، يبحثون بعين لا تهدأ عن إيمانك، وإذا اطمأنوا إليه، منحوك صك غفران، وإلا فالويل لك. أيها الرقـيب: ما رأيك لو تفتش في قلبك أحياناً؟ من باب التغيير.
حرية التعبير ليست ترفاً استهلاكياً، إنها دليل على التطور الفكري للشعوب، وكلما ظل الفرد متطلعاً بعين خائفة وقلب راجف إلى عين رقيب فاحصة لا تهدأ، راجياً رضاه خائفاً من سخطه، من شكه، من اشتباهه فيه، كلما رزحت الشعوب في الظلام على الرغم من كل الإضاءات الكهربائية. وكلما تقهقر الإبداع عن اللحاق بركب الإبداع الإنساني الحضاري المشع بنور المحبة وقوة الفهم وحيوية الفكر وحدة الوعي بمحنة الحياة وألقها.
الإبداع ليس كتاباً مقدساً تبحث عن التحريف فيه، إنه أرق وجودي، محاولة لفهم العالم، دع الشاعر وشأنه، ففي قلبه ما لا يحتمله قلبك من همّ، وروحه تئن من وطأة الإحساس بك.. لو تفهم.
في «التعليمات بالداخل» يحكي فياض محنة اللجوء وحلم العودة وضياع وطن:
( اللجوء: أن تقف في آخر الصف..
كي تحصل على كسرة وطن.
الوقوف: شيء كان يفعله جدك.. دون معرفة السبب!
والكسرة: أنت.
الوطن: بطاقة توضع في محفظة النقود.
النقود: أوراق ترسم عليها صور الزعماء.
الصورة: تنوب عنك ريثما تعود.
والعودة: كائن أسطوري.. ورد في حكايات الجدة.
انتهى الدرس الأول.)
________
*الاتحاد

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *