فضيحة شاعر الإنسانية


*عبده وازن


فضيحة غير متوقعة «تطارد» الشاعر التشيلي الكبير بابلو نيرودا وتكشف ناحية خفية وربما غير إنسانية، في شخصيته، هو الذي كان في مقدم المناضلين اليساريين المدافعين عن حقوق البشرية المقهورة. ومختصر الفضيحة أن «شاعر الإنسانية» تخلى عام 1936عن ابنة له وحيدة في السنة الثانية من عمرها وانكرها بلا رحمة، وقال فيها كلاماً هجائياً لا يمكن أن يتلفّظ به أحد. ومأساة الابنة هذه، ولادتها مصابة بمرض «استسقاء الرأس» (هيدروسفالي) الذي يشل الجسد ويعطل الدماغ ويحول دون النمو الطبيعي للضحية.

هذه «المعلومة» ليست من قبيل الإشاعة أو التلفيق للنيل من كرامة شاعر كبير حاز جائزة نوبل، بل هي وقيعة حقيقية، ظلت مجهولة وغير رائجة، لكنها لم تغب تماماً عن الملمين بأسرار شاعر «كل الحب» وأصدقائه الشعراء الذين رافقوه خلال مساره النضالي والشعري ومنهم لوركا وفيسانتي ألكسندري. وتبلغ الفضيحة أوجها في الأسطر التي كتبها نيرودا هاجياً بها هذه الابنة البريئة التي لم ترتكب من ذنب سوى المرض الذي أسقطه القدر عليها. يقول نيرودا عنها بصلافة تامة، بعد تيقّنه من مرضها: «ابنتي، أو المفترضة ابنتي، هي كائن يثير السخرية، فاصلة نكرة، مصاصة دم من ثلاثة كلغ، مسخ». مثل هذا الوصف لا يمكن أن يُلقى على طفلة وليدة، أياً تكن حالها. الطفلة ملاك وإن ولدت مريضة أو مشوهة أو ناقصة. ملاك رغماً عن الجميع، رغماً عن القانون والطب والنظريات العلمية.
كان بابلو نيرودا عندما ولدت ابنته مالفا مارينا عام 1934 قنصلاً لبلاده التشيلي في مدريد. وفرح بها كثيراً عند ولادتها ورأى فيها زهرة الأمل الذي كان في حاجة إليه في تلك الحقبة، وأطلق عليها اسم مالفا مارينا الذي يكنّ له الكثير من الود، فهو يجمع بين الزهرة واللون والأرض والبحر. وفي ذاك الحين كتب فيها الشاعر فيديريكو غارثيا لوركا صديق أبيها، قصيدة صغيرة يصفها فيها بـ»دلفين حب وسط الأمواج القديمة» قائلاً: «لا أريد أن أمنحك زهرة ولا صدَفة/ بل باقة ملح وحب، ضوءاً سماوياً، وكلها أضعها، بينما أفكر بك/ على فمك».
هذه الفضيحة أثارتها شاعرة هولندية وأعادتها إلى الضوء في رواية نشرت في هولندا يحمل عنوانها اسم ابنة الشاعر «مالفا»، وأحدثت فور صدورها ضوضاء وبوشر في ترجمتها إلى لغات عدة. وعمدت الكاتبة هاغار بيترز إلى منح مهمة السرد إلى الابنة المعاقة، لتروي مأساتها وتنتقم من والدها الشاعر الكبير الذي تخلى عنها، وتحكي مسار حياتها القصيرة المعطوبة. والفكرة بديعة على ما يبدو، أن تكون الراوية التي تتولى الكلام، بكماء أصلاً وغائبة عن العالم وعما حولها.
وكانت أصلاً زوجة الشاعر ماريا أنطونيا الهولندية- الإندونيسية، قد استودعت طفلتها المعاقة لدى أسرة هولندية تقدم خدمات خيرية، في مدينة غودا، تولت الاعتناء بها حتى وفاتها عام 1943، في غياب أبيها وأمها اللذين نسياها أو تناسياها. وظلت هذه الابنة مجهولة طوال ستين سنة إلى أن اكتشفها في 2004 باحث تشيلي يقيم في هولندا، بعد تحرّ طويل أوصله إلى المقبرة التي دفنت فيها.
أنكر نيرودا ابنته كل الإنكار جراء إعاقتها، وربما وجد فيها عالّة عليه هو الذي عاش حياة من النفي والاضطهاد والتنقل بين بلد وآخر، هرباً من الأنظمة الدكتاتورية. لم يشأ بتاتاً أن يعترف بها ولم يذكرها في قصائده. تركها لقدرها تتخبط في ليل المرض والموت الجسدي. لكنّ الشاعر الإسباني الكسندري كتب قليلاً عن المرحلة تلك ذاكراً الابنة المجهولة.
ما يدعو إلى الاستغراب أنّ نيرودا كتب أجمل قصائد الحب والنضال، ودافع عن الفقراء والمقهورين والمضطهدين والتزم معاناتهم وآلامهم، وبدا شعره ذا نفَس غنائي عال، وجدانياً يغرف من معين جروح البشرية. وهو كان دوماً في حال من الحنين إلى طفولته التي يرى فيها طفولة العالم والزمن، الطفولة التي هي، كما يقول عنها: «اكتشاف العالم والريح والنبات…».
لا يمكن قراء بابلو نيرودا شـاعر «النشــيد العام» أن يصدقوا هذه الفضيحة، لكنها حقيقية وأليمة جداً. هل كان بابلو نيرودا يخفي في قرارة نفسه «وحشاً» صامتاً، أم أن الشعر والنضال كانا كل حياته، وفي سبيلهما أمكنه أن يضحي حتى بابنة بريئة؟
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *