رسالة إلى شاعر


*أدونيس

– 1 –

من أين، أيها الشاعر،
تجيئك هذه الشجاعة:
تتحدّث عن المستقبل
كما لو أنّك تحفظُه
عن ظهرِ قلْب؟

– 2 –
أنظرْ إلى التاريخ، هنالك، في آخر الشارع، اذهبْ واسألْهُ:
لماذا قرّرتَ أن تُعيدَ النّظر في هذا العالم، وفي نفسكَ، قبل أيِّ شيءٍ؟
– 3 –
وصَفْت، مرّةً، اللغة العربية بأنّها لغةٌ نائمة،
وقلتَ: لن تنهضَ من نومها،
إلاّ إذا نهضَتِ اللحظةُ الحاضرة،
ونهض معها المكان.
هل وصفُك ما يزال قائماً، وصالحاً؟
– 4 –
أنتَ مسافرٌ دائمٌ في اللغةِ حتّى عندما تكون نائمة. أعجبني ما دوّنتَه في يوميّاتك حول سفرك الأخير:
«السّفرُ يصِلُ أطرافَ الجسدِ بأطرافِ الأفق».

– 5 –
اسمحْ لي أن أستشيركَ في هذه المسألة:
في أثناء حديث عن الحبّ مع محلّل نفسيّ صديق، طلبَ إليّ بإلحاحٍ، أن يحلّل علاقتي بالغطاء في سرير النّوم، وبالوسادة، على نحوٍ خاصّ.
غير أنني تردّدتُ. ولا أزال متَردِّداً.
ما رأيُك؟ هل أغّير رأيي؟

– 6 –
أعيد كثيراً قراءة الجملةِ التي قلتَها جواباً عن سؤالٍ حولَ هويّتك:
« تشبهني تلك الموجة التي لا تُشبه أيّةَ موجة».

– 7 –
أسألُكَ:
« لماذا يبدو الوقتُ كأنّه قصيدةٌ غامضة، مع أنّه يقطرُ دماً،
ولماذا تحبّ هذا الغموض؟»

– 8 –
أعيد الآن قراءة أبي نواس. عندما قرأتُ قولَه:
هذا زمانُ القرودِ فاخْشَعْ
وكُن لها سامعاً مُطيعا،
تذكّرتُ انشغالك بالزمن، وبخاصّةٍ المستقبل. وتساءلتُ ما يكون رأيُك في فنّ السَّيْرِ المُعاصِر؟
ذلك أنّ له معنى مُزدوِجاً: السيرَ في المكان والزمان معاً. ولا تصنعُه الأرجلُ وحدها، وإنّما تصنعه كذلك الرؤوس.
أهنالك، حقّاً، مكانٌ لا يستطيع السائر أن يتقدّمَ فيه؟
أهنالك حقّاً، زمانٌ يرفض أن يسيرَ إلاّ القهقرى؟
– 9 –
قرأتُ لك في بعض كتبك هذه الأقوال:
1 – « طلبَتِ الصاعقةُ من مِترسَةِ الصاعقة موعداً لكي تتحاور معها».
2 – «طائرٌ لا يحبّ أن يخرجَ من القفص إلاّ ميتاً».
3 – «للضوء أجنحةٌ ليست لها أيّة خبرةٍ في أيّ طيرانٍ ليليّ».
4 – «تقطّعَتْ حبال الضوء عندما عبَر القمر، الليلة الماضية، فوق البيت الذي وُلدتُ فيه».
عندي حول هذه الأقوال بعض الأسئلة التي أتردّد في طرحِها خوفاً من أن تتّهمني بعدم الفهم، أو بالجهل. علماً أنّ الغايةَ منها هي تذوُّقُ هذه الأقوال بشكلٍ أفضل وأغنى. غير أنّني سأرجئ طرحَها إلى وقتٍ آخر.
– 10 –
عندما أقرأ كتاباً لك، لا أشعر بالوحدة التي أحسّ بها، أحياناً، في قراءة كتبٍ أخرى لكتّابٍ آخرين. مع ذلك أشعر شخصيّاً، أنّ أكثر اللحظات جمالاً ورهبةً هي تلك اللحظة التي يُحسُّ فيها الإنسان أنّه وحيدٌ، وأنّه يعيش كمن يتدلّى في الفراغ.
هل تعرف هذه اللحظة؟
– 11 –
ثمّةَ بلدانٌ أعرفُ بعضها جيّداً ليست أكثرَ من إعلاناتٍ معلَّقةٍ على جدران العالَم.
ماذا تفعل لو كنتَ مواطناً في أيٍّ منها؟ أعني هل تواصل العيش فيها؟ هل تهاجر؟ هل تشارك في النّضال من أجل تغييرها؟
أشدّد على الكيف، كيفيّة التغيير، لأنني أعرف أنّ تقاليدَ التغيير في مثل هذه البلدان، وبخاصّةٍ العربيّة، لا تنطلق من السؤال: كيف نبني مجتمعاً؟ بل من السؤال: كيف نغيّر السلطة؟ وقد تغيّرت السلطة وتتغيّر دائماً في المجتمعات العربية، مثلاً، أو في بعضها، على الأقلّ، لكن المجتمع ذاته لم يتغيّر. على العكس، ازداد انهياراً، وتخلّفاً، وتبعيّة في جميع الميادين.
ألديكَ ما تقوله؟
– 12 –
تعرف أنّ معظم الذين يمثّلون الثّقافة الغربيّة ينتقدوننا نحن العرب، بأنّنا شعوبٌ غير ديمقراطيّة. ولا ينتقدوننا بنبرة احترامٍ تحرص على تفهّم الأوضاع التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة الخاصّة بنا. على العكس، يفعلون ذلك بنبرةٍ تخفي كثيراً من الازدراء.
لكن سوف أكون حسَنَ النّيّة، وسوف أنظر إلى هذا الانتقاد بوصفه اهتماماً بنا، ودعوةً لنا إلى أن ندخلَ منتدى الشعوب الديمقراطيّة في العالم. وهذا يعني أنّنا ننتظر من هؤلاء المثقّفين أن يساعدونا في السّير نحو الديمقراطيّة، وأن يقفوا إلى جانب القوى التي تناهض الديكتاتوريّات والرجعيّات على حدٍّ سواء، في بلداننا.
لكنّ الواقع كذّب انتظارَنا، ماضياً، ويكذّبه حاضراً. فلم يفعل الغربُ الثّقافيّ، الأميركيّ والأوروبيّ، شأنَ الغرب السياسيّ، إلاّ ما يزيد شعوبَنا بُعداً عن الديمقراطيّة، وما يزيد ارتباطَها بأسُسِ التخلّف والرّجعيّة في شكليهما الأكثر ازدراءً للإنسان وحقوقه: التيوقراطيّة، والمذهبيّة – القبَليّة.

وسؤالي الذي أطرحه على نفسي دائماً، وأطرحه عليك هنا، هو:
هل هذا الغرب الثّقافيّ – السياسيّ مريضٌ، إزاءنا، بفصام الشخصيّة؟ أم أنّه يحتقر العرب، فعلاً؟ وبدلاً من أن يعلّمَنا كيفيّة التخلّي عن العنف، وضرورات الاعتراف بالآخر المختلف، وكيف يتوجّب إنسانيّاً، أن نناضل بسلميّةٍ وباحترامٍ للإنسان وحقوقه، لا يعلّمنا، على العكس، إلاّ العنفَ، والتسلّح، وقتال بعضنا بعضاً. هكذا يسهر على هذا المسرح العربيّ الحديث المتواصل: باسم الديمقراطيّة، وحقوق الإنسان وحرّيّاته، وباسم الدفاع عن الحقيقة والحقّ، يتمّ القضاء كلّيّاً على جميع الأسس التي تؤدّي إلى هذا كلّه.
ونظراً إلى أنّ الدين الإسلاميّ هو المكوِّن الأساس لعقليّة العرب وثقافتهم، فإنّ هذا الغرب لا يؤيّد عمليّاً إلاّ ما يخلق المناخات السياسيّة والفكريّة التي تزعم أنّ هذا الدين خصم للتفكير الحرّ.
ولا أريد هنا أن أتحدّث عن موقف هذا الغرب الثقافيّ – السياسيّ من إسرائيل، وكيف يشارك ساسةَ هذه الدولة في صنع واحدةٍ من المآسي التاريخيّة – الإنسانيّة الكبرى.
سؤالٌ طويل؟ ماذا؟ لا تريد أن تبحثَ فيه الآن؟ حسناً. نرجئه إلى وقتٍ آخر.

– 13 –
سألتَني مرّةً:
لماذا يرفض العربيّ أن يتأمّل في ذاته؟ ودعمتَ هذا السؤال بقولك: يندرُ أن ترى عربيّاً يعْتَرف، إذا أخطأ، بأنّه أخطأ. وأردفْتَ، لمزيد من هذا الدّعم: قلّما نجد عربيّاً يقبل أن يعترف بمشكلاته أمام محلِّلٍ نفسيّ. وأذكرُ أنّني لم أُجِبْك. ذلك أنّ الجواب لم يكن سهلاً عليّ. هكذا أرجأْنا الحديث في هذه المسألة.
اليوم، أسمح لنفسي بأن أطرح عليك السؤال نفسه في ضوء الأحداث العربيّة الراهنة؟ ماذا؟ هل تريد، إذاً، أن نُرجئ كذلك البحث في هذه المسألة؟ حسناً. إلى وقتٍ آخر.
– 14 –
سؤالٌ أخير عن المسألة الجماليّة في الفنّ:
كنّا سابقاً، نقول إنّ خصوصيّة الفنّ تكمن في مدى اختلافه ( عن الحياة اليوميّة، والتذوّق الشائع، والقيم والأفكار السائدة…إلخ )، واليوم يُقال العكس:
خصوصيّة الفنَ هي في ائتلافه: لا يبتكر جديداً، لا يزعزع أنظمةً قائمة، سياسيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة، لا يحرّك في اتّجاه المعرفة والكَشف، وإنّما هو مع «الجمهور» وفي مستواه. هكذا يغيب، اليوم، «علم الجمال»، في الفنّ، ويحلّ محلّه «علمُ التّوافُق» مع ثقافة الناس وأذواقهم ورغباتهم.
هل لديك ما تقوله؟
ماذا؟ هل تريد كذلك أن نرجئ البحث في هذه المسألة؟
حسناً. إلى وقتٍ آخر.
___________
*( الحياة)

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *