نديم جرجورة
يبدو أنه مُدركٌ موعد المغادرة قبل أن يحين الوقت. يدخل سرداب النسيان، متيحاً له إمكانية النيل منه قبل أن تأتي اللحظة الأخيرة، فيرحل وحيداً في صمتٍ قاتل، أو في تذكّر أعنف من أن يُسكته شيء. منذ وفاة فاتن حمامة (17 كانون الثاني 2015)، يُعلن أنه ينتظر اللحظة هذه. يقول بوحاً ذاتياً يؤكّد ارتباطه العتيق بها، ويشير إلى أحمد رمزي (1930 ـ 2012)، معتبراً أن رحيله «كسر» ظهره، المنكسر بقوة أكبر مع غياب فاتن حمامة. كأنه لم يشأ البقاء في عالم ملموس وحسّي، فيدخل إلى عالم النسيان («ألزهايمر» بلغة الطبّ)، ويتجوّل في شوارع القاهرة سائلاً الجميع عن زوجته الوحيدة. كأنه لم يرغب في العيش، فـ «حبّ حياته» لم يعد موجوداً، وصديق العمر ملتحقٌ بآخرة لا يعلم أحدٌ شيئاً عنها، والدنيا تضيق، والعمر يتقدّم بخطى بطيئة، حاملاً معه ثقل ذكريات وحيوات وأعمار مديدة.
إنه عمر الشريف. الرجل يحني رأسه أمام الموت. يقبل به، بعد مناداته إياه غداة رحيل فاتن حمامة. يُطلّ في مشهد أخير في فيلم أخير، ويقول أمام الكاميرا: «سأشتاق إليكم» («روك القصبة» للمغربية ليلى مراكشي، 2012). يعرف تماماً أن المشي على طريق النهاية قدرٌ لا فرار منه. يعرف أن العيش الأقصى لن يُؤبّده، وأن الأفلام لن تمنحه أكثر من شهرة ونجومية يُطعّمهما بوسامة لم تنضب كثيراً في شيخوخة تزيده ارتباكاً وعصبيّة، وتضعه في مصاف كبار يصنعون أمجاداً لأنهم منذورون للحياة، ويأتون إلى الموت لأن الموت أخجل من أن يدقّ الأبواب عليهم، كي يرافقهم إلى المثوى الأخير. منذ أشهر، ينادي عمر الشريف الموت، والموت يتردّد في تلبية النداء. غير أن النهاية حتمية، فلا الحبّ أقوى منها، ولا العيش قادر على منعها من الحضور، ولا ملذّات العالم تُبعد الكأس عن طالبها.
من أين الدخول إلى عالم عمر الشريف: الحياة بملذّاتها ومتعها ومساراتها المتناقضة؟ السينما بتقلّباتها وهواجسها ونجوميتها؟ السهر في ليالي المدن الكبيرة من أجل لعبة «بريدج» أو امرأة؟ مصر أو الغرب؟ يوسف شاهين أو ديفيد لين؟ أصل الهوية؟ جذر الحكاية؟ لا أعرف. المداخل عديدة: الحبّ. النساء. صدامه مع الكنيسة. اعتناقه الإسلام إكراماً لـ «حبّ حياته». الإقامة الطويلة في الفنادق. العصبيّة المرافقة إياه، خصوصاً في شيخوخته. علاقاته المتنوّعة. إلخ. عناوين يُمكن اعتبارها والتعاطي معها كمحطّات حقيقية في سيرته الذاتية. كجزءٍ من سيرته. التمثيل مهنة. شيء ما بين الوظيفة والعمل على إيجاد مناحٍ «إبداعية» لها. ليس تقليلاً من القيمة الفنية والجمالية لأدائه. الخيط رفيعٌ جداً بين المهنة والخلق في عالم التمثيل. محترفون كثيرون مقيمون في المهنة من دون الانتقاص من متطلّبات الأداء الساحر والجميل. أميل إلى قناعة تقول بهذا، بالنسبة إلى عمر الشريف. ممثل رائع؟ أجل. ممثل محترف؟ طبعاً. ممثل متنوّع الشخصيات والأدوار؟ هذا جزءٌ من المهنة، إن كان العامل فيها مقتنعا بضرورة التطوير والتفعيل. أدوارٌ عديدة له مفعمة بجماليات يتوقّف النقد عندها مراراً. أدوارٌ أخرى لا يُمكن تذكّرها لشدّة بساطتها وعاديتها. الأفلام الأقلّ أهمية المُشارك فيها، تعكس شيئاً من تلك الحرفية في أدائه. حرفية تتوضحّ ببساطة التمثيل وسلاسته، كأنه يؤدّي واجباً لا أكثر، فتكون تأدية الواجب كافية للعمل، وجميلة أيضاً في الوقت نفسه.
إنه عمر الشريف. التداخل كبيرٌ ومتين بين التمثيل والحياة. الأسئلة عنه وحوله لا تنتهي: مصريٌّ من أصول لبنانية؟ يُقال إن الأصل سوريّ، بل شاميّ. غربيّ ذو جذر عربيّ؟ هوليوودي منفتح على الفعل الأوروبي، سينمائياً على الأقلّ؟ لغات يُتقن مفرداتها ولهجاتها ونكهاتها؟ براعة في التفنّن أحياناً بتأدية أدوار؟ هذه كلّها «ميزات» غير موجودة كثيراً في زمن عربي متوسطيّ يُقيم، ذات يوم، في حضن أجمل المدن وأحلاها: الإسكندرية. هذه سمة الإسكندرانيّ، عندما كانت الإسكندرية «أم الدنيا» فعلاً لا قولاً.
الممثل منكبّ على عمل يدفعه إلى واجهة المشهد أعواماً طويلة. الرجل معقودٌ على معنى العيش في عمق الانقلابات ومصائرها، وفي لذّة التمرّد وجنون امتلاكه. يولد في الإسكندرية، وله في بلاد الشام منبتٌ. يستفيق على مهنة التمثيل، فيضع فيها حيويته وسحره وبراعته في تشكيل صورة سينمائية لصناعة متكاملة عربياً وغربياً. يعاند أقداراً من أجل حبّ، ولا يتردّد عن الخروج على ملّته من أجل من تتملّك قلبه وروحه حتى النهاية. يتعرّف ويرتبط ويتنقّل في حراك لا يهدأ، وفي غليان يُنتج إبداعاً على الشاشة الكبيرة، أو يُشارك في إنتاجه، لكنه في الحياة اليومية يخرج من أسطوريته البصرية، كي يستعيد ذاته وحيداً في مواجهة تحدّي البقاء حيّاً بعيداً عن الـ «كادر». ذات يوم، يوافق على خيار يُصبح، بالنسبة إليه، تحوّلاً حقيقياً في حياته، بعد أن يرفض آخرون خياراً كهذا. تستطيب له الإقامة في مدن، لكنه يعود إلى القاهرة بعد أن أتعبه تجواله الطويل في بقاع الأرض، وعلى أسرة فنادق، وفي أحضان نساء، وأمام كاميرات سينمائيين عديدين.
أفلامه العربية والغربية تبقى مادة لقراءات نقدية متنوّعة. قيل فيها الكثير. يُمعن نقّادٌ ومثقفون في تحليلها. لم تعد الكتابة عنها مدعاة لذّة، أو مطلباً لمزيد من المعرفة. تبقى عناوين راسخة في المشهد السينمائي العام، وفي وجدان مشاهدين. رحيله لحظة تأمّل في سيرة وحكايات. لحظة تأمّل في معنى الحبّ أيضاً.
السفير