* أمير العمري
“اسمعني يا مارلون” للمخرج الأميركي ستيفن ريلي، فيلم وثائقي مثالي، فكل ما يحتويه من لقطات هي لقطات حقيقية، سواء من الأرشيف أو من الأفلام الخاصة (المنزلية) التي كان يحتفظ بها الممثل الكبير والتي تصور بعض محطات حياته. واللقطات الوحيدة التي تم إعدادها بعيدا عن الوثائق المصورة، هي اللقطات الافتتاحية لمنزل براندو من الداخل وبعض محتوياته، فهي لقطات مصنوعة بعد أن تعرّض منزل براندو قبل سنوات للتخريب.
يبدأ الفيلم بلقطة ثلاثية الأبعاد لرأس براندو كانت قد صممت في لوحة رقمية قبل سنوات من وفاته عام 2004 (عن 80 عاما)، يجعلها المخرج تتحرك بحيث يوحي بأن براندو يتكلم مخاطبا نفسه أحيانا، أو يخاطبنا من القبر بعد وفاته.
ويروي الفيلم قصة حياة براندو منذ نشأته، متوقفا أمام أبرز المحطات السينمائية في حياته، ويعكس مأزقه كفنان مؤرق، يشعر دائما بعدم الاطمئنان إلى ما يفعله، بل يحمل الكثير من الشكوك حول فن التمثيل أيضا. يروي براندو بصوته في البداية كيف وصل إلى نيويورك “بثقوب في جوربه” و”ثقوب أخرى في عقله”، فقد كان يشعر بالنقص كونه لم يكمل تعليمه.
ويستخدم المخرج في هذا الجزء الكثير من لقطات الأرشيف النادرة بالأبيض والأسود، لمدينة نيويورك في الأربعينيات. ويروي براندو كيف التحق بمدرسة للتمثيل حيث تعلم على يدي خبيرة الأداء ستيلا أدلر التي يكن لها الكثير من العرفان، فهي التي غرست فيه الثقة بالنفس ودربته على طريقة المنهج (الميثود) التي تعتمد على المحاكاة الدقيقة للمشاعر في الواقع، وأن يستدعي الممثل من داخله ومن حياته الخاصة ما يجعله يعبر بدقة عن انفعالاته.
يعود الفيلم إلى طفولة براندو، علاقته المتوترة بوالده، وارتباطه الشديد بأمه التي هجرت الأسرة بسبب سوء معاملة والده لها. وفي مجموعة من اللقطات النادرة التي حصل عليها المخرج ريلي، نرى ستيلا أدلر وهي تقوم بتدريب الممثلين، ثم نراها في مقابلة تلفزيونية تتحدث عن “المنهج”، ثم كيف يبدأ “مارلون” أولى خطواته في السينما بفيلم “الرجال” الذي قام فيه بدور رجل مشلول مقعد يتحرك على مقعد للمعاقين، ويصف لنا كيف اقتضي الدور منه أن يقضي ثلاثة أسابيع داخل مستشفى للمعاقين، يدرس حركاتهم وسكناتهم.
سحر السينما
يمتلئ الفيلم بالكثير من المقاطع من أشهر أفلام براندو، مثل “فيفا زاباتا” الذي قام فيه بدور الفلاح المكسيكي الثائر إيميليانو زاباتا، و”رصيف الميناء” الذي صنع شهرته وحصل عنه على جائزة الأوسكار لأحسن ممثل، وكان أصغر ممثل يحصل عليها وقتذاك.
يتحدث براندو أيضا عن صورة النجم، عن سحر السينما، عن ما يدفع الناس للذهاب للسينما، عن سبب الظلام داخل قاعات العرض (لإتاحة الفرصة لأن ينطلق خيالك.. المتفرج يشاهد الممثلين وهم يقومون بكل ما يريد أن يقوم به.. الحب والضرب والمغامرة).
يعود الفيلم، بين حين وآخر، إلى طفولة براندو التعيسة، ثم يروي قصة زواجه من زوجته الأولى الهندية البريطانية “أنا كاشفي”، وهو الزواج الذي لم يستمر أكثر من تسعة أشهر لكن نتج عنه طفل هو كريستيان. بعد “زاباتا” ينتقل براندو للقيام بدور الضابط الثائر في فيلم “تمرد على السفينة باونتي” (1961)، وهو الفيلم الذي يخصص له المخرج قسما كبيرا نسبيا بسبب تأثيره على براندو.
فقد تعرض بسببه لهجوم عنيف من جانب الصحافة والمنتجين الذين اتهموه بأنه كان السبب في تعطيل التصوير وزيادة التكاليف، لكنه أصبح بعد ذلك شبه متخصص في الأدوار التي تعبر عن المهمشين والثائرين والفقراء.. لكن أهم ما تحقق من وراء مغامرة التصوير في “باونتي” أنه اكتشف جزيرة تاهيتي التي كان يحلم بها، كما اكتشف فيما بعد مباشرة جزيرة أخرى صغيرة هي التي اشتراها وأصبحت بمثابة “الجنة المثالية” له. وهو يختفي في تلك الجزيرة لفترة بينما تتوالى المكالمات الهاتفية من كثيرين يعرضون عليه العمل في هوليود كما نرى في هذا الفيلم.
يشرح براندو كيف تحايل للحصول على دور زعيم المافيا في فيلم “العراب” (1971)، فقد كان في حاجة ماسة للدور بينما كان المنتجون يرفضونه. وعندما يصل إلى الحديث عن دوره في فيلم “التانغو الأخير في باريس” يتهم مخرجه الإيطالي برتولوتشي بأنه “سرق روحه”!
نشاهد أيضا كيف يرسل براندو صديقته الهندية الأميركية إلى حفل الأوسكار عام 1973 لكي تصعد بدلا منه لتعلن رفضه جائزة أحسن ممثل عن “العراب”، بسبب ما اقترفته أميركا في حق السكان الأصليين، وما عرضته هوليود من صور مشوهة لهم في أفلامها!
الموقف السياسي
يتحدث براندو كثيرا عن اضطهاد الهنود الحمر، ويقول إنه تضامن معهم عندما كانوا يدافعون عن أرضهم في ويسكنسون ضد الحرس الوطني الذي أطلق عليهم الرصاص (نشاهد لقطات نادرة لهذه الاشتباكات في الستينيات)، كما يتحدث كثيرا عن دفاعه عن الحقوق المدنية للسود.
في الجزء الأخير في الفيلم، ينتقل المخرج إلى المرحلة الأخيرة في حياة براندو التي شهدت الكثير من النكبات الشخصية، بعد أن أطلق ابنه الأكبر كريستيان الرصاص على صديق أخته “تشايان”، فقتله، ثم حكم عليه بالسجن عشر سنوات لكنه خرج بعد خمس سنوات، ونرى لقطات لشهادة براندو في الدفاع عن ابنه أمام المحكمة وبكائه أمام الكاميرا متأثرا، ثم انتحار الابنة بعد سنوات قليلة، وكانت في الخامسة والعشرين من عمرها، وتأثر براندو الكبير بالحدث المأساوي.
رغم أن الفيلم يحفل بمادة شديدة الثراء، سواء من المقابلات التلفزيونية التي أجريت مع براندو أو من الأخبار التي كان يبثها التلفزيون عنه، بما فيها مداعباته الجريئة للمذيعات اللاتي أجرين معه تلك المقابلات، ورغم توقف الفيلم أمام الكثير من أفلامه وخاصة “العراب” الذي نرى منه مقاطع مثل مشهد موت دون كورليوني أمام حفيده؛ فإن الفيلم يهمل التوقف أمام التجربة الوحيدة لبراندو في الإخراج في فيلم “جاكس الأعور” (1961)، ويهمل فيلما من أهم أفلامه وهو “كيمادا” للمخرج الإيطالي بونتيكورفو، كما يتجاهل زيجاته المتعددة التي أسفرت عن إنجاب 16 ابنا وابنة.
ويعاني الفيلم أيضا من بعض الانتقالات الخشنة في المونتاج، فرغم أنه يسير طبقا للتتابع الزمني في حياة براندو، فإنه يعود كثيرا بالصوت والصورة إلى موضوع علاقته المبتورة بوالدته وتأثيرها عليه، مما يتسبب في إرباك التدفق الطبيعي للموضوع.
لكن الفيلم -رغم ذلك- ينجح في نسج صورة شديدة الحميمية عن براندو، المتمرد، الحالم، المتأمل، الروحاني، صاحب الفلسفة الإنسانية، المحب للطبيعة وللحيوانات، الذي عاش السنوات الأخيرة من حياته وهو يشعر بالذنب بسبب فشله في أن يصبح أبا حقيقيا جيدا.
فيلم “اسمعني يا مارلون” بورتريه مكثف لحياة الفنان، لصعوده ومأساته، لحياة مليئة بالمغامرةغرد النص عبر تويتر، بالبحث الشغوف عن معنى للحياة، بالرغبة في إشباع الروح بعيدا عن نزعة النجومية الاستهلاكية التي يسقط فيها كثير من نجوم هوليود.. وهو أيضا، فيلم عن عذابات البحث الإنساني الشاق عن الحقيقة.
___
*الجزيرة.نت