عابر حياة


*ثريا الشهري

سياسة العروض العالمية المعروفة باسم «سيرك دو سولاي» أن يكون لكل عرض فكرة يجسِّدها ويتمحور حولها. ولا مجال هنا لاستعراض المواضيع التي تحقّقت مع سيرك دوسلاي، ولكن دعنا نتحدث اليوم عن «كيدام». أو عابر حياة باللغة اللاتينية. وقد احتل عرضاً كاملاً باسمه بدأ منذ عام 1996. وحصد الملايين من الجمهور المتابع لجمالية الأداء والفكرة. فـ«كيدام» هذا هو الذي قاد فتاة العرض المهملة من أهلها المتأزِّمة بمللها ورماديتها، إلى نقلة جديدة عليها. غيّرت معها نمطية حوارها وأسلوبها مع الحياة. وكأنها خلعت نظارتها القاتمة القديمة واستبدلتها بأخرى ملونة بالرؤى والخيارات.. فهل من الضروري أن يكون «كيدام» شخصاً بعينه؟ قد يعترضك ويتقاطع معك في هيئة إنسان، أو كشيء عابر تكون سمعته وقرأته أو خبرته في مشوارك. وكلنا يمر بنا «كيدام»، ولكن من يتنبّه له تلك هي المسألة.

يُروى على سبيل العبرة أن قسيساً خرج من الكنيسة ذات شتاء قارس وقد اكتسى الخارج بحلة بيضاء حتى وصل الثلج إلى ركبتي الرجل، وهو يمشي قاصداً مكانه. فعبرت به دراجة يدعوه صاحبها إلى الركوب خلفه، ولكن القسيس صد عنها لأن الرب سينقذه. وذاك كان جوابه. وكلما طوى بضع خطوات أخرى تكاثف سقوط الثلج وارتفع بمستواه. فمرّت بالرجل سيارة بالدعوة نفسها إلى الصعود. وهذه أيضاً امتنع عنها. إلى أن وصل الثلج قرابة حلقه. فسمع صوت سيارة تقف بمحاذاة الرصيف ويدعوه سائقها إلى النجاة بنفسه، ولكن القسيس الذي لا يزال يكرر أن الرب سينقذه أضاع آخر الحلول. وطبعاً انتهت القصة بموته. وهو يشبه منطقنا من حيث لا ندري. فالرب لم يتخل عن الرجل حين دعاه، وأرسل إليه دراجة وسيارتين. فلِمَ الرفض والعناد؟ ولم الإصرار على أن يأتيه الخلاص ببرواز «المعجزة»؟ فهل ينتظر العبد سلماً من السماء ينزل عليه؟ وإن افترضنا، فلماذا لا يعتبر الدراجة والسيارتين هما ذلك السلم! ولماذا تأطيره بحبل يتدلى من فوق فيفوِّت عليه الفرص المرسلة! فلا يلحظها إلاّ بعد مرورها. وربما لا يفعل حتى بعد مرورها. فاصنع من صعوباتك فرصاً، ولا تصنع من فرصك صعوبات.
الحظ يمر بباب الجميع. فيفتح بعضنا الباب، وبعضنا الآخر يتكاسل ويفتحه غيره. فهو وفق استعدادك والتقاطك له. يقول لويس باستور: «في مجال الملاحظة لا تنحاز المصادفة إلاّ إلى الذهن المستعد». أمّا المقولة الخائبة بأن الحظ يأتي مرة واحدة، فهي مضلِّلة ومحبطة وغير صحيحة بصيرورة الأيام. فالحظ قد يطرق بابك مرات. وقد يأتيك بدراجة وسيارة، ولكنك تنتظر الطائرة فلم تعره انتباهك ولا وقتك. أتدري شيئاً؟ الدراجة كانت ستوصلك إلى السيارة، ومنها إلى سمائك الثامنة، ولكنك لم تبدأ. وتضخّم طموحك وانتفخ، فاحتقرت الدراجة. يقول جمال الغيطاني: «كلمة أو نظرة أو إيماءة ربما تحدِّد مصيراً، وتغيِّر مسار حياة».
أمّا «كيدام» الذي يزورك وتتعرف عليه وتقدِّر ما أحدثه في عقلك وروحك، فهو عابر حياة لا يدوم. وهذه مهمته وقد أنجزها. ويبقى عليك أن تكمل من دونه. فلا تتشبث به. وسيأتيك غيره طالما أنك متنبّه لوجوده، وللعطاء الرباني المتمثل بوجوده. فحتى هذه المقالة من الجائز أن تعتبرها «كيدام». وأن تستبقيها كي لا تغادرك كلماتها. ولكن الاعتبار والأفكار ليسا حكراً على مقالة أو موقف أو شخص. فاغرف وانهم وأنت تقرأ وتطالع وتصادق وتعمل وتصارع ما حييت. وانتقل برشاقة في تطور فهمك ووعيك وعلاقاتك. حتى تشحذ آلة استعدادك النفسي والعقلي لمزيد من الفهم والوعي.
ولأن الكلمات وحدها ليس لها الأثر ذاته بلا ألحان تلامس الروح، فماذا لو ألحقتها بموسيقى تصويرية تنوّع من طبيعة صمتها وجفافها؟ فلا يمكنك إنجاز شيء كبير بلا عاطفة قوية تشحنه. وباللحن الملهم توقظ المشاعر. فماذا عن موسيقى وأغاني عروض سيرك دوسلاي؟ فهي في معظمها غير تقليدية وجاذبة. فما يضيرك إن جربت؟ وما خسارتك إن أخطأت، أو لم تكن النتيجة بمقدار توقعك؟ فمن لا يختبر الجديد لا يعشْ. وأنت لو منطقتها ستجد أن الأخطاء – هذا إن اعتبرت- هي الثمن اللازم لإكمال المشوار. وحتى لو اخترت الجمود مكانك، فهذا أيضاً خطأ آخر ترتكبه بعدم المواصلة. فلا تشغل نفسك بالتصنيفات، وركِّز بتفاصيلك، ونقِّح وغربل وتعرّف على منح السماء في حزمتك. تعرّف على «كيدام» ولو في جملة عابرة، أو إنسان على قارعة الطريق. يقول ابن العميد: «قامت تظلّلني ومن عجب/ شمس تظلّلني من الشمس». وسيرك دوسولاي – والأخيرة تعني الشمس بالفرنسية – لم يرفع من قيمة عروضه تكاليف إنتاجه الباهظة في الديكورات والأزياء واستقطاب الكفاءات فحسب، ولكن في ما يقوله من وراء كل هذا الإبهار. وهذا هو الجوهر، وتلك هي الشمس، وإن لم تكن شمساً.
_______
* كاتبة من السعودية
(الحياة)

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *