*علياء تركي الربيعو
كانت عافية المشتاقة، وهي صوفية من عبد القيس من أهالي البصرة، امرأة والهة هائمة، وكثيرة الذكر قلما تأنس إلى أحد. وذُكر أنها كانت تحيي الليل، وتأوي بالنهار إلى المقابر، وتقول: المحب لا يسأم من مناجاة حبيبه ولا يهمه سواه، وكانت تناشد ربها: واشوقاه واشوقاه واشوقاه ثلاثاً. وعلى شاكلتها، وأشدّ، كانت غفيرة العابدة وهي صوفية جليلة من أهل البصرة صَحِبت معَاذَة العدوية، أصابها العمى من شدة البكاء والتزهد وظلت تقول “عمى القلب عن فهم مراد الله في أوامره أشدّ وأشدّ”. ومعهن وفي ذات الموقع الرفيع من التصوف تتربع، فاطمة النيسابورية، وهي من قدماء نساء خراسان، ويروى أنه لم يكن في زمانها من النساء مثلها، حتى أن ذا النون (الصوفي المعروف) سُئل عنها فقال: “هي ولية من أولياء الله، وهي أستاذي”.
يورد أبو عبد الرحمن السلمي، في كتابه “ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات”، سماء ما يزيد عن سبعين صوفية وزاهدة نكاد لا نعرف شيئا عنهن إلا عبر تراجم دوّنها الرجال الصوفيون من أمثال السلمي والعطار. ومع غياب مدونات لم تحرص النساء الصوفيات المسلمات على كتابتها، حول تجاربهن الذاتية في مدارات الزهد والتصوف، اكتفى الباحثون والباحثات بإعادة إنتاج نصوص القدماء حول هؤلاء النساء الزاهدات والصوفيات، من خلال نقل المعلومات وتكرار الحكايا المتواترة عنهن. وقد وصل الأمر عند بعضهم إلى نوع من الاستسلام الخدر اللذيذ لمخيلات الكرامات عند أولئك الصوفيات وقصصهن الأسطورية، انشغالاً وتوكيدا لما يشبه الطابع القداسي للزاهدات والصوفيات.
في المقابل، استأثرت الصوفية الشهيرة، رابعة العدوية، دون غيرها من العابدات والزاهدات بعدة دراسات مطولة. فأصبحت الأكثر نجومية وحضورا، والأكثر استحضارا للدراسة والبحث سواء لدى المستشرقين والمستشرقات، أو الباحثات والباحثين العرب، وقد استحوذت على دراسات كاملة وعديدة لوحدها. وقد يكون السبب أنها الوحيدة من بين النساء الصوفيات التي وصلتنا عنها مادة ثرية متنوعة من الحكايات والأقوال والكرامات التي دونت في عصور متباينة بداية من القرن الثالث والرابع الهجريين حيث المدونات الأولى في التصوف، وصولا الى المتأخرين من مدوني التراجم والكرامات الصوفية في القرون الثالث عشر، والرابع عشر وما بعدهما، وهو أمر لم يتوفر لغيرها من النساء الزاهدات والصوفيات. وربما جاز القول إنه لم يفلت أحد من سحر السيدة وعبق سيرتها العطرة، كالغزالي، وابن عربي، وجلال الدين الرومي الذين لم تخل نصوصهم من أخبار رابعة وأشعارها.
في دراستها، “حضور السطوة أو سطوة الحضور في هامش الهامش؟ ما بين أيقونة رابعة ومخايلة الهوامش المنفية”، الصادرة ضمن كتاب “التهميش في المجتمعات العربية” عن دار جداول – بيروت، ترى الباحثة، هالة فؤاد، أن رابعة العدوية تقدم نموذجا جليا لكيفية سقوط الباحثين والباحثات الدراسين لسيرتها وكل ما روي عنها في فخ الصورة المتخيلة لرابعة، ذات الوهج السردي الأسطوري الساحر. وتتساءل الكاتبة، لماذا استمتع الجميع بالمرويات الخيالية عن المتصوفة العدوية، وخاصة المستشرقين والمستشرقات، الذين انبهروا بعجائب وخوارق السيدة الجليلة “القديسة” متماهين وجدانيا مع وضعية القداسة المخايلة؟. وفي مقاربتهم لها يستدعي بعضهم تواريخ مماثلة لقديسات مسيحيات شهيرات لفترة رابعة، ناهيك عن هوسهم بفكرة النموذج المريمي، مستندين في ذلك إلى مرويات الصوفية أنفسهم وأقوالهم وقناعاتهم حول السيدة العذراء.
وبعض من هذا ما تفسره المستشرقة الألمانية، آنا شيمل، في كتابها “الأبعاد الصوفية في الإسلام، وتاريخ التصوف”، إذ تقول: “إن الصوفية يحبون مريم بصفة خاصة لكونها الأم الطاهرة التي ولدت الابن الروحي عيسى، وغالبا ما ينظرون إليها على أنها رمز للروح التي تلقت الإلهام الإلهي، وحملت بالنور الرباني، لذا يتم قبول الدور الروحي الخالص للنور الأنثوي”. كذلك يتبنى فريد الدين العطار هذا التفسير فيذكر في افتتاحية كتابه، “سيرة رابعة العدوية في تذكرة الأولياء”: “إنها ذات الخدر الخاص، المستورة بصورة الإخلاص، المتقدة بنار العشق والاشتياق، المتحرقة الى الاحترام، المقبولة عند الرجال، كأنها مريم ثانية، صافية صفية، إنها رابعة العدوية، رحمة الله عليها، لتتشكل لدينا صورة جامعة تتراوح بين الصورتين الصافيتين الأم المقدسة والعاشقة الطاهرة”.
يذكر السلمي في كتابه، “طبقات الصوفية”، عن الزاهدة مريم البصرية، أنها ” كانت في أيام رابعة تصحبها وتخدمها، عاشت بعدها وكانت تتكلم في المحبة”، وهنا يقع السلمي في الخطأ عينه كبقية الرواة، إذ يصبح حضور رابعة في سيرة مريم البصرية، حضورا معياريا أنموذجيا يقاس عليه زهد النساء الأخريات، فتغدو رابعة العدوية الأنموذج الأصلي المحتذى في سير الصوفيات، أنموذجا مشابها لذاك “المريمي”!
وترى بعض الباحثات المعاصرات أن أسباب شهرة رابعة وانتشار أخبارها بين كبار الشيوخ ورجالات التصوف، أنها كانت شديدة الورع والإخلاص، فلم تكن تعتبر نفسها سوى خادمة متجردة لخدمة الإله الحق، وكانت ترفض دور الوساطة بين الخلق والرب. وتشرح الأمر الباحثة، أميمة أبو بكر، في دراستها، “تفسير التفسير، حالة رابعة العدوية”، بأن هذا الإنكار للذات والتضحية بها هو الذي جعل لهذه السيدة مكانة خاصة في تاريخ التصوف، بينما تخالفها الرأي، هالة فؤاد، التي ترى بأن قلة المرويات عن النساء الزاهدات الأخريات، بالقياس الى رابعة، قد يكون تعبيرا خفيا عن موقف ذكوري ملتبس ومضمر، ولعله لا يخلو من توتر عدواني إزاء حضور النساء الكثيف والمربك في هذا المشهد الصوفي، حتى غدت رابعة على أيدي الرواة أيقونة التصوف الإسلامي عامة والنسوي خاصة.
وتضيف:”لا يمكننا أن نتجاهل في هذا السياق الطبيعة الانتقائية الإقصائية للذاكرة الجمعية ذات النزوع الذكوري، التي مارست عنفا متخيلا على التاريخ النسائي ورموزه المتنوعة في المجالات المتباينة”، بل وتقدم لنا هالة فؤاد تفسيرا مغايرا وجديدا لما يحدث، فهي تشكك في أن كل ما روي عن حياة رابعة العدوية ومواقفها وأقوالها ظاهريا سببه أن رابعة مثلت الأنموذج الأكثر استئناسا والأقل تمردا وصدمة على مخيلة الرواة، بل لعلها كانت الأكثر قابلية للسرد والصياغة المتخيلة دون غيرها. وربما يكون ما أخفي وحجب عنا من سير الأخريات المهمشات، بالقياس برابعة، هو ما يجسد وضعية التمرد في أقصى احتمالاتها، والتي باغتت وعي هؤلاء الرواة، وصدمتهم وتجاوزت قدراتهم على التخيل والسرد، بل لعل هؤلاء النسوة اللواتي تم تجاهلهن تخطين قدرة الرواة على تحمل وجودهن المختلف جذريا والمهدد لما هو سائد معرفيا وقيميا في المجتمع.
كذلك ما يلفت النظر هنا هو ذلك الالتباس اللاواعي لدى رجال الصوفية، بين الأنموذج الأمومي والحضور الأنثوي، إذ كانت النساء يجسدن ضميرا أخلاقيا لبعض الصوفية الرجال، حيث يكشفن مدى رياء وكذب وزيف بعضهم من حيث ادعائه الزهد في الدنيا وشهواتها ومباهجها المتنوعة، والتي لم يتحرروا منها، وإن ظنوا أو ادعوا غير هذا. ويروي لنا السلمي حكاية لافتة عن رابعة الأذرية من أهل البصرة إذ يقول:” كانت من كبار أصحابهم ووَرِعِيهم (الزهاد). صحبها عبد الواحد بن زيد، وحكى عنها، ثم خطبها، فحجبته، فاغتمّ، فتحمّل عليها حتى آذنته، فلما دخل قالت له: “يا شهواني، أي شيء رأيت فيّ من آلة الشهوة، فهلا خطبت شهوانية مثلك”.
وترى فؤاد أنه بالرغم من كل الإقصاء، استطاعت الصوفيات اختلاس الحضور، ومارسن سحرهن المتخيل على سرد الرواة، وهو سحر مشابه لتلك الصور المتخيلة عن الحور العين، اللواتي يشغلن المخيلة الذكورية، واللواتي وجد الرواة توصيفا لهن عبر مرايا النساء الزاهدات الصوفيات.
______
*العربي الجديد