«آلام الشاب فرتر» لحظة ولادة الحرية الشخصية


أرسنت بويتلر (ترجمة نجم والي)

تُعتبر رواية «فرتر» ليوهان غوته أول رواية معاصرة، ولأنها بهذا الشكل، تستولي على قلوبنا، كما لو أنها تُعاش اليوم، كما لو أنها كُتبت اليوم. أجل، هذا بالذات هو سرها، أنها تجعل بشراً من أزمنتنا الحاضرة، ليسوا بخصال لوته أو فرتر، يشعرون بأنفسهم، كما لو كانوا في قلب الرواية. لأن الأمر كما هو مع العنف القديم، يُستعاد هنا ما هو إنساني ويُعاد إلى الحياة، متوجاً بالحب.

«القلب»، تلك هي الكلمة، التي تظهر غالباً في رسائل فرتر، والتي تسيطر على كل الرواية كموضوع. ليس الحديث هنا عن البطولات والمغامرات كما في الروايات قبلها، ليس عن المشاكل، ليس عن الشدائد والمخاطر وتنوعات الحياة كما في روايات زماننا، إنما تتحدث رسائله دائماً عن الحب وحسب، نعم، بكلمة أدق: عن حب واحد.
وهذا الحب يقود إلى الموت، لأنه غير مشروط. كيف يحدث ذلك؟ هذا ما تصفه الرواية. إنها تصف ذلك عن طريق الرسائل، وهذه الرسائل يختفي وراءها مؤلف واحد. نحن لا نسمع صدى، لا اعتراض، لا عزاء، ولا موافقة؛ دائماً يتحدث فقط هذا القلب، حتى يتوقف عن الخفقان. في حينه فقط يتسلم الناشر/المؤلف الكلمة ويخبرنا عن نهاية القصة.
حب فرتر غير مشروط، هذا يعني، أنه لا يعرف قانوناً خارجاً عنه. فرتر لا يعيش في مجتمع، يحتضنه ويعتني به ومن جهته عليه واجبات ناحيته. أنه يقف وحيداً؛ ولهذا السبب يأتي الكتاب على شكل مونولوج. لا قرابة ولا عائلة، لا كنيسة تربط المحبين. أنه يعرف رابطة اجتماعية واحدة فقط، وهي المطلقة التي يبحث عنها: الارتباط بالحبيبة. ولأن الرابطة هذه تظل ممنوعة عليه، يغادر العالم.
عدم اشتراط الحب، التي لا تعرف مغزى آخر للحياة وقيمة للوجود غير نفسها، كامتلاء، تحمل تعرضها للخطر في نفسها. بعض الشعراء كانوا قد أنشدوا الحب قبل غوتة. لكن هذا الكتاب نشأ في قحط روايات زمانه المقروءة، وهو بينة بالتالي، على تطابقه مع الساعة الجديدة التي بزغت في تاريخ الانسانية. لقد كانت المرحلة، التي تعلم بها الناس، بأن يشعروا بأنهم شخصيات خاصة، أفراد. الفنان حلّ نفسه عن صنفه، المواطن أعتق نفسه من الطاعة غير القانونية أمام الحاكم المطلق، المسيحي حرر نفسه من مطلب إيماني لكنيسة دوغماتية متحجرة. بهذا الشكل عاش الفرد المتحرر تحقيق ما يسعى إليه عن طريق الشعور. في أزمان أخرى لاحقة طبعاً كان يجب أن تنشأ مواقف حياتية أخرى أكثر تطوراً، مثلاً واجب الخدمة المسؤولة التقليدية أو رغبات السلطة الشخصية أو الرغبة بالاستمتاع أو الاعتماد على العقل والتفكير الاستقرائي. لكن هنا في السنوات الدائرة حول 1770، في ساعة ولادة الحرية الشخصية، كان الذي سيطر في ذلك الوقت هو الشعور.
ولهذا السبب كان الزمن هو زمن الشعراء. غوتة تكلم باسمهم. ما وصفه، كان قد عاشه، ليس في جميع تفاصيله، على الأقل ليس كما في نهايته التراجيدية، لكن مع ذلك عاشه حتى مواجهة الموت. عام 1814، في كتابه الثالث عشر المعنون «الكتابة الأدبية والحقيقة»، كتب غوتة عن تلك الفترة: «تحت الحب المحموم لجمع الأسلحة كان عندي أنا أيضاً خنجر حاد بشكل جيد وثمين. هذا الخنجر وضعته في كل الأوقات إلى جانب فراشي، وكم حاولت قبل أن أطفأ النور، وأنا أفكر، إذا كنت سأنجح، بغرز رأسه الحاد المدبب بضعة سنتمرات في صدري عميقاً». وبعد عشر سنوات سيقول لكاتب سيرته أكيرمان عن الرواية «كانوا أفراداً، علاقات قريبة لي، حرقت دواخلي ورمتني في ذاك الوضع النفسي، الذي انتهى إليه فرتر. لقد عشت، أحببت، وعانيت كثيراً! هكذا كان الأمر.»
في 14 آب 1771، بعد أن انتهى من دراسته للقانون في لايبزغ وشتراسبورغ، كان غوتة ذهب إلى بيت أهله في هيرشغرابن في فرانكفورت. في 28 آب 1771، يوم ميلاده، قدم طلباً لمجلس المدينة في الرومر بالحصول على رخصة مزاولة مهنة المحاماة. في 3 شباط من العام الذي تلاه تُؤرخ أول مرافعة قانونية له. بعدها كان عليه أن يذهب إلى المحكمة العليا للإمبراطورية الرومانية الخاصة بالقومية الألمانية لكي يكمل دراسته العليا في القانون في جمعية محاميّ الامبراطورية في فتزار. أبوه، مستشار القيصر يوهان كاسبار غوتة، كان قد درس هناك أيضاً.
في بداية آذار وصل غوتة إلى المدينة االصغيرة الواقعة على نهر اللان. بعد أربعة أسابيع فقط تعرف على لوته بوف، في حفلة رقص، جرت في 9 حزيران 1772 وفي الرسالة المؤرخة في 16 حزيران 1771 تشكل حفلة الرقص نقطة التحول في القسم الأول من الرواية. كان لغوتة في حينه 22 عاماً من العمر، لوته تسعة عشر عاماً، لكنها كانت مخطوبة منذ أربع سنوات سلفاً. خطيبها/عريسها كان سكرتير السفير يوهان كريستيان كرستنر.
حب غوتة للوته بوف هو الخلفية التي اعتمدت عليها الرواية. أنها تحتل أشهر صيف العام 1772. مقاطع عديدة من القسم الأول للرواية كان قد عاشها غوتة بنفسه، لكنها ذوبت من قبل الكاتب في العمل الفني إلى درجة، أنها، لكي نستخدم إصطلاحاً قديماً محبباً لنفس العجوز غوتة، أصبحت «ذات أهمية» في البناء الكلي. أيضاً حديث الوداع مع لوته وكستنر حدث في 10 أيلول، في الحقيقة في هذا التاريخ أيضاً، بالضبط كما هو مؤرخ وموصوف في الرواية، دار موضوع الحديث فيه حول الموت وفيما إذا كانوا سيرون بعضهم من جديد في العالم الآخر. لكن بينما ستنتقل المحادثة هذه إلى نهاية القسم الأول، فلإنها تلمح باتجاه نهاية القسم الثاني من الرواية، حيث يحل فيه الموت الحقيقي، الذي ينفذه فرتر على أمل أن يلتقي بلوته من جديد في ذلك العالم الآخر.
في 11 أيلول 1772 في وقت مبكر، ومن دون وداع، غادر غوتة فتزلر، تجول في مناطق نهر اللان باتجاه أيرينبرايتشتاين، ليزور هناك عائلة لاروشه حيث سيتعرف على ابنتهم ماكسميليانه التي كان عمرها ستة عشر عاماً. بينما راح يعمل كمحام في فرانكفورت وهو يحاول أن يزيل حب لوته من قلبه. بعد سبعة أسابيع وصله الخبر، بأن سكرتير إدارة منطقة فتزلر يروساليم، الذي كان يعرفه من مرحلة دراسته في لايبزغ، كان معه أيضاً في حفلة الرقص في فولبيرستهاوسن، كان قد أقدم على الانتحار. سبب الانتحار هو حبه لزوجة رجل آخر. غوتة يطلب من كستنر أن يزوده بتفاصيل أكثر عن الحادث، وهو أمر سيحدث في تشرين الثاني.
في نيسان 1773 يتزوج كستنر ولوته. لكن غوتة الذي كان قد اشترى لهما محبسي الزواج في فرانكفورت، علم بالزواج أولاً، بعد أن كان الزواج قد تم. الزوجان الشابان انتقلا إلى هانوفر.
ثلاثة شهور بعد ذلك، في يوليو 1773، حلت السيدة لورشه مع ابنتها ضيفة على بيت أهل غوتة. «أنه لأمر ساحر العيش تحت سقف واحد مع كائن مثلها». ونصف سنة بعدها، في 9 يناير 1774، ستتزوج ماكسيميليانه التاجر الفرانكفورتي بيتر آنتون بريناتو، الذي كان يكبرها بعشرين عاماً. الإثنان سيكونان والدي بيتينا وكليمينس بريتانو وبيتهما سيكون مهد الرومانتيكية الألمانية. لكن غوتة الشاب كان قد وقع في حب مكسيمليانه. بهذا الشكل عرف غوتة عن طريق حبه اليائس لإمرأة متزوجة والغيرة التي حلت بالزوج، ما قاد قبل سنتين من ذلك التاريخ يروساليم للموت في فتزلر. تلك هي الدعامات الأساسية للرواية، التي بدأت كتابتها في 1 شباط وانتهت في بداية أيار.
رغم أن الرواية احتاجت ثلاثة شهور لتنتهي، إلا أنها كانت مع ذلك عملاً فنياً مبنياً بوعي ومدروس جداً. وهذا ما يمكن رؤيته بالذات في أنها تبدو على العكس من ذلك. إذا قارن المرء الرسائل، التي كتبها غوتة بالفعل في عام 1772، مع رسائل الرواية، فإنه سيرى، درجة التفكير والتمعن التي اضافتها الكتابة الأدبية في محصلتها الأخيرة، وتعيد الإشارة، كيف أن الحدث يبدأ هادئاً، ثم تأخذ السرعة تتزايد شهراً بعد شهر بنبض سريع تتراكض وكيف أنها في النهاية عندما تصل إلى أناشيد أوسيان تنفتح على انفجار ألم كبير.
لكن يظل الانجاز الكبير في المقام الأول، هو اللغة، التي إعتمد عليها تأثير «فرتر» وما يزال يعتمد عليه حتى اليوم. ظاهرياً كل شيء هو مجرد حديث يومي، كما هي عليه المعطيات اليومية، تلك التي يتحدث عنها المرء. الحياة المنزلية لعائلة لوته، في محيط من الأطفال، النزهات. حفلة الرقص كاحتفال كبير بالربيع مع الطقس العاصف، الذي يُجسد بمعنى ما القصيدة الرعوية للشاعر الألماني كلوبشتوك، تلك هي الحادثة الوحيدة تقريباً، التي يتم رفعها لغوياً في دائرة الأحداث المتواضعة. ورغم ذلك، كل شيء، مُصعّد، أغلب الأحيان يصل إلى لغة محمومة. أسئلة، مناداة، بناء جمل متغير بانفعال، وليس نادراً تُقال جمل مقطعة، ناقصة. مضافاً إلى ذلك القوة التصويرية للقصة. دائماً نحن في أوضاع استثنائية. غالباً مشاهد مأخوذة من الطبيعة، كما هي بالضبط المناظر الطبيعية في وادي نهر اللان، النهر نفسه، متنزه، قرية، أزهار متفتحة أم ذابلة، حتى الأشجار المقطوعة دائماً هي مرآة للمعايشات الروحية. بعثرة للأحداث التراجيدية، التي تلمح للنهاية، في الرسالة المؤرخة يوم 12 آب 1771 قصة الفتاة الغريقة، ذكرى صديقة صبا للشاعر في شبابه في فرانكفورت، أو قصة الشاب القروي، الذي سلب الحب عقله، في الرسالة من 30 أيار 1771 و4 أيلول 1772. الحادثة التي جرت عند السفير، التي تفتتح القسم الثاني، بتاريخ 20 تشرين الأول 1771 حتى 5 أيار 1772، كل تلك التلميحات جاءت فقط لكي تخدم، لكي تعرض الهاوية، التي تقف بين عالمين، عالم أعمال المكتب الحكومي عالم فرتر المعني بنفسه الداخلية تماماً. أيضاً لا الوطن الذي يحصل عليه، ولا ضيافة النبيل، الذي أراد راحته 9 أيار حتى 18 حزيران 1772-، لم تستطيع ثنيه عن عزمه. في تموز عاد فرتر مجدداً إلى لوته، لكنها خلال ذلك كانت تزوجت. الأصوات السوداوية لأناشيد أوسيان، موظة شعرية لذلك الزمان، والتي هي مراثي تتحدث عن الأعمال البطولية للزمن ما قبل المسيحية في إيرلندا، هي إشارات سابقة ومقدمات موسيقية للنهاية. في 24 كانون الأول، إحدى أطول ليالي العام، يطلق فرتر النار على نفسه: «حمله عمال يدويون. لا رجل دين صاحب جنازته.»
لم يكن الانتحار فقط بالنسبة للكنيسة إثماً عظيماً. جزء لا بأس به من سمعة الرواية، يرجع إلى الحقيقة التالية، وجود مطالبة في الرواية لفهم هذا الفعل اليائس. ليس ذلك وحسب، بل أكثر، كما كُتب في مقدمة الرواية، في المقدمة المعنونة «إلى القارئ»، أنكم لن تستطيعوا منع اعجابكم وحبكم لفكره وأخلاقه، ولا دموعكم لقدره وهذا من المحتمل يعود إلى حقيقة، أن فرتر نفسه يجد فعله تعبيراً عن تضحية منه، يقدمها إلى الزوجين لوته وألبرت. «ذلك ما مُنح إلا للقليل من نبلاء النفوس، يسفكون دماءهم من أجل أحبائهم وينيرون عن طريق موتهم لأصدقائهم حياة متنوعة جديدة». أنها ليست الكلمات تلك وحدها في رسالة الوداع للوته، التي تنعكس فيها وبصوت هادئ نغمة معاناة المسيح. «لن أرتعد، من مسك الكأس البارد المروع، الذي أشرب منه سكرة الموت! أنت تقدمينه لي وأنا لن أتردد «هناك سلسلة لا تحصى من النغمات التوراتية في لغة الرواية. «ليس ذلك عن يأس، إنه تأكيد، بأنني جرعت ما يكفي من كأس الألم، وأنني أريد أن أضحي بنفسي من أجلك» (20 كانون الأول). أو: «سأتقدمك إلى أبي، ولأبيك. أريد أن اشكو له، وسيواسيني حتى تأتين» يعترف فرتر بحبه اليائس، لكنه لا يفقد الإيمان بحب الله: «رب الأبدية يحملكم إلى قلبه، كما يحملني»، أيضاً هذه الكلمات موجودة في الرسالة الأخيرة. كانت موجة دينية جديدة، تلك التي تصارع للتعبير عن نفسها في «فرتر». ولهذا السبب أيضاً كانت الرواية وثيقة لعصرها.
لقد تجنب غوتة روايته، بعد أن كتبها من روحه. نحن لن نتوقف أيضاً عن قراءتها، كما قرأ هو فيها، كما هي الحال في أعماله الأخرى، لن نتوقف عن قراءتها «أنها مفرقعات عالية»، كما قال ذلك وهو عجوز لكاتب سيرته أكيرمان.
المستقبل

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *