سعد السعدون
في آخر نهارات رمضان قبل ثلاث سنوات أزفت ساعة الرحيل لصوت عراقي أدبي كبير لطالما صدح بحقائق، وجرب البوح في اعترافات قلما يبوح بها كاتب شرقي.
نعم رحل على حين غرة على ثرى مدينة تورنتو التي تبعد آلاف الاميال عن محلته البغدادية العتيقة (الطاطران)، تلك المحلة التي اختزن شريط ذاكرتها وحول أحداثها على الورق من خلال عشرات النصوص بين رواية وقصة وأدب المذكرات التي صورت لنا جوانب من حياة تلك البقعة الفقيرة الواقعة في قلب بغداد القديمة، فضلا عن تصديه لموضوعات أخرى، ففقيدنا الاديب ناصر يعد واحدا من ألمع أدباء جيل الستينيات القصصي والروائي في العراق وأنتج ما يربو من خمسين كتابا بين القصة والرواية والنقد، وامتاز برؤيته الرمزية التي عالج عبرها معظم نصوصه.
وتعد الرمزية هي السمة الاساس لكتاب ذلك الجيل الذي أراد حيث حاول أديبنا الراحل ناصر الاشتغال على مبدأ التحديث والتغيير كأبناء جيله الذين رفضوا السائد في واقع الادب القصصي والروائي، وبدأوا باجتراح أساليب معالجات فنية، تفصح عن رغبتهم إيجاد نمط جديد من السرد، فبعض كتاب هذا الجيل – ومنهم أديبنا الراحل ناصر – اشتغلوا على ثيمات صادمة فاجأت الاوساط النقدية والادبية، وقد تجلى هذا الاسلوب في نص “اعترافات رجل اسمه شريف نادر” فهذا النص الذي بني على رؤية كابوسية مفعمة بأجواء مركبة تمثلت عبره الاسلوبية لأدب ناصر الذي ساهم في رسم خارطة الثقافة العراقية الحديثة وترسيخ ملامحها الى جانب عدد من الادباء البارزين.
ومن المحطات التي لا بد أن نتوقف عندها ونحن نحاول تقليب أوراق سيرة أديبنا ناصر الذي نعيش هذه الايام ذكرى رحيله التي صادفت خلال شهر رمضان المبارك، هي مجموعته التي حملت العنوان “الحب رميا ً بالرصاص” التي تمثل أحدى أهم المنعطفات في مسيرة القصة القصيرة في العراق، فحينما نتحدث عن التجديد في القصة لا يمكن ان نغفل دور الراحل عبدالستار ناصر وأبناء جيله الذهبي ويمكننا رصد آفاق ذلك التجديد من خلال المعالجات والموضوعات والاشكال التي تمت إضافتها من قبلهم على ما هو موجود من تقنيات لأبناء الجيل الذي سبقهم.
ولعل ما يمكن قوله إن جيل كاتبنا ناصر أجاد التعاطي بنفس جديد وخاص مع تيارات الوعي التي كانت سائدة آنذاك، والتي تمت الاستفادة منها من قبل جيل الخمسينين أيضا ًإلا أن القصة الستينية اتخذت مسارها التجريبي الخاص وتجلى تمردها في رفض بعض القيم الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدة، الامر الذي حدا بكتاب السرد ومنهم ناصر الى إطلاق العنان لمحاولات إختراق هياكل بعض المدارس الفكرية والفنية لتكريس بصمتهم الابداعية، وقد تمكنوا من تكريس مساراتهم التغريبية.
ومن بين أكثر الادباء الذين سجلوا بقاء مميزا لنصوصهم هم عبدالستار ناصر، وتبقى نصوص مثل “الرغبة في وقت متأخر” 1968، “فوق الجسد البارد” 1969، من المحطات المهمة في حياته الادبية الى جانب الكثير من النصوص التي صاغها فقيدنا ناصر والتي باتت تشكل اليوم تراثا مهما ومعينا ثرا لكتاب القصة الجدد، وحين طرق الموت بابه ذات نهار رمضاني لم نصدق حينها هل هي مزحة أم أن لحظة الغياب قد أطلت بالفعل لتسجل حضورا لأديب لطالما أثار الجدل وهو يحاول اقتناص لحظات الزمن ليكون شاهدا على جملة من التناقضات والتشابكات والاعترافات في مجتمع شديد التعقيد.
وداعا أيها الفتى البغدادي الوسيم وعزاءنا أننا مازلنا ننعم بإرثك الادبي الجميل الذي يسجل حضورك الدائم.
ميدل ايست أونلاين