تحرير التعليم من الأثقال

*د. حسن مدن

كانت المطالبة بالنهوض بالأوضاع التعليمية في البلدان العربية وما زالت مطلباً حيوياً في كل البرامج التنموية الداعية إلى النهضة الحضارية؛ فالنهوض بالتعليم وتوفير الرعاية الصحية المتطورة وتأمين فرص العمل تعد مرتكزات محورية لأي برنامج اجتماعي جدي، يلزم لتطبيقه مقادير كافية من الحوكمة والشفافية.

ألا أن التعليم بالذات كونه يتوجه نحو الاستثمار في الأجيال الجديدة يحتل أهمية خاصة بين هذه المرتكزات. ويلاحظ تقرير حديث ومطول للبنك الدولي نشره على موقعه في «تويتر» ازدياد القدرة على الالتحاق بالنظام التعليمي في المنطقة العربية خلال العقدين الماضيين إلى درجة تعميم الالتحاق بالتعليم الابتدائي للبنين والبنات في معظم بلدان المنطقة.

وارتفع صافي معدل الالتحاق من 86% إلى 94% بين عامي 2000 و2010. وكذلك ارتفع معدل الالتحاق بالتعليم الثانوي، وإن لم يكن بنفس الدرجة: إذ ارتفع صافي معدل الالتحاق من 62 إلى 70% خلال الفترة نفسها.

الا أن المؤشرات المتصلة بجودة التعليم ما زالت تظهر أن الأنظمة المدرسية في المنطقة العربية تتسم بشكل عام بتدني الجودة. فلا أحد يتعلم المهارات الأساسية، وهي حقيقة تظهرها بأوضح برهان الاختبارات القياسية الدولية التي تكشف نتائجها أن المنطقة مازالت دون المستوى المتوقع بالنظر إلى متوسط دخل الفرد فيها.

ويعني هذا أنه بالنسبة للكثير جداً من التلاميذ بأنحاء المنطقة لا يُعد الالتحاق بالمدارس مرادفاً للتعلم، كما أن الدلائل تشير إلى وجود تنافر سائد بين ما تحتاجه سوق العمل من مهارات وما يتم تعليمه في المدارس. وفيما يتم إجراؤه من دراسات عالمية، يقر الكثير من شركات المنطقة بأن عدم كفاية مهارات القوى العاملة، سواء الفنية منها أم الشخصية، تعوق نموها وقدرتها على توظيف العاملين.

والحق أن الحديث عن ضرورة إصلاح النظم التعليمية في بلداننا ليس جديداً، وأثير مرات عدة، لنكتشف بعد كل مرة أن الأمر لا يعدو كونه أشبه بالموجة العابرة التي تأتي قوية، وأحياناً في منتهى القوة، لكنها شأنها شأن كل موجة سرعان ما تنحسر وتتبدد، فلم نشهد أي انعطافة حقيقية في النظام التعليمي تذكرنا بتلك التي جرت في البلدان التي صممت على النهوض، فاختارت أن تبدأ بإصلاح التعليم، بل إن بلدا مثل الهند لم يكن للتعليم فيه حتى عقدين من الزمن تلك السمعة الطيبة، يملك اليوم عدداً من أفضل المعاهد في العالم في مجال المعلوماتية، وهذا يقدم لنا واحداً من أسباب النهضة الهندية الراهنة.

لعلنا نتذكر عدة مقاربات لضرورة إصلاح النظام التعليمي، وشكلت لجان متخصصة وأستقدم خبراء أجانب وشركات ذات صلة بالشأن التربوي، وبعض هذه المعالجات والمقاربات لا تنقصها الجدية والعمق، لكن العبرة ليست في الذي يكتب على الورق، وإنما في ذلك الذي ينفذ على الأرض، ومشكلتنا الأزلية أن إصلاح التعليم، كما أشياء أخرى، لا يرتبط بقرار سياسي استراتيجي حاسم مرتبط بالرؤية التنموية على المستوى الوطني والقومي الشامل. لذلك تكثر عندنا البدايات وتتكرر محاولات التجريب التي لا تقود إلا إلى التشوش والتشويه، فما أن يتغير الوزير المعني حتى تتغير معه كل الخطط والبرامج، ويعود خلفه ليبدأ من منطقة الصفر أو ما يشبهها، لا من النقطة التي وقف عندها سلفه.

والنتيجة هي أننا لا نخطو خطوة عملية واحدة في اتجاه إصلاح النظام التعليمي وعقلنته وتحريره من الخرافة، وهو إصلاح لن يمكن من دونه لبلداننا أن تغادر حالة الضياع التي تعاني منها، وهي محاصرة بضغط الزمن الذي يمضي بسرعة، فيما نواجه اليوم تحديات غير مسبوقة، نراها في تفكك الدول والكيانات الوطنية والإمعان في التطرف والغلواء المدمرة، واستدراج الشبان العرب نحو التهلكة.

رغم أن المفروض أن تكون قضية إصلاح التعليم في أقطارنا الخليجية قضية داخلية في المقام الأول، أي نابعة من الاحتياجات التنموية والثقافية لمجتمعاتنا، ألا أننا لا يمكن أن نغفل حقيقة أن الحديث عن إصلاح هذا التعليم تواتر مع اشتداد الضغوط الخارجية على بلدان المنطقة بضرورة إعادة النظر في النظم والبرامج التعليمية بعد التحليل الذي خلصت إليه بعض الدوائر الغربية، اثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 من أن «محافظة « هذه البرامج والنظم تقف في خلفية بعض الميول المتشددة والمتطرفة لدى قطاعات من الشباب في بلدان المنطقة تجعل منهم فريسة سهلة للجماعات الإرهابية.

مهمة كبرى مثل إصلاح النظام التعليمي ما أكثر ما تختزل في جانب واحد أو في تفصيل جزئي، يغفل بقية الأجزاء والتفاصيل، ومن ذلك هذا النزوع المتزايد في بعض بلدان الخليج نحو ما بات يعرف بـ«تمهين» التعليم، أي جعله مهنيا، انطلاقا من وهم مستحوذ على بعض الأذهان من أن التعليم لكي يكون حديثا وعصريا، عليه التخلي عن الكثير من مكونات منظومته، وأن يتوجه لتلبية ما يعرف ب»احتياجات» السوق، التي تتطلب إعداد الشباب للمهن المتاحة في السوق اليوم، وهي مهن تتجه نحو الخدماتية والوظائف المالية والمصرفية، التي تتطلب مهارات معينة من نوع معرفة معقولة باللغة الانجليزية، حصرا في المجالات التي يتطلبها هذا النوع من المهن، فضلا عن التعامل مع الحاسوب وبرامجه، وهو نهج يؤدي إلى ازدراء التعليم نفسه كمنظومة متكاملة من المعارف والقيم المنفتحة على أفق إنساني واسع ويحصره في أطر ضيقة محدودة.

والنقاش يجب أن يعاد إلى نقطة البدء، فالعلة ليست في مادة الفلسفة، من حيث هي مادة، ولا سواها من مواد مشابهة، وإنما في طبيعة المادة المنتقاة من تاريخ الفلسفة الحافل والزاخر بالمتناقضات والرؤى المتعددة، والأهم من هذا منهج التدريس الذي تقدم به هذه المادة وكفاءة التربويين الذين يقدمونها، وابعد من ذلك فان النقاش يجب ألا يحصر في سؤال من نوع: هل ندرس الفلسفة في المدارس المتوسطة والعليا أم نلغيها، وإنما يجب أن يدور حول مفهوم التعليم ووظيفته، من حيث هي وظيفة الإعداد السوي للتلاميذ ثقافيا وتربويا وتطبيقيا، أي بمعنى إعدادهم لمواجهة مرحلة ما بعد المدرسة، ثم ما بعد الجامعة، بما في ذلك إعدادهم للعمل وما يترتب على ذلك من التزامات وشروط، وبالتالي على المدرسة أن تتحول إلى ما يشبه المصهر المعرفي الذي يُكون الطالب، وهذا يتطلب منه معرفة جيدة بالعلوم والرياضيات والتقنيا، وبمقدار لا يقل يتطلب منه أن يحوز على أفق ثقافي منفتح يعرف من خلاله شيئا من تاريخ الفلسفة والأدب والفكر الإنساني، حتى لا تتراكم عندنا المخرجات السائدة للتعليم، التي تعطي انطباعا أن أفرادها لم يمروا بمدرسة أو جامعة أعطتهم، بالإضافة إلى فك الحرف ومعرفة الكتابة، معرفة ووعيا.

سيكون حال التعليم أفضل في بلداننا العربية لو أن عدد التلاميذ في الفصل الواحد كان عشرين تلميذا، لا أربعين أو خمسين، وسيكون هذا التعليم أفضل لو كانت نسبة المعلمين إلى عدد التلاميذ أكبر مما هي عليه الآن، وسيكون أفضل أيضاً لو أن المعلمين نالوا تأهيلاً أعلى مما هو متاح الآن، ولو أن أجور المعلمين كانت أعلى مما هي عليه، بحيث تصبح المهنة جاذبة للكفاءات لا طاردة لها، وبالتأكيد فإن حال التعليم سيكون أفضل لو توفرت بنية تحتية للتعليم خير من الموجود من مدارس ومختبرات وأجهزة حاسوب ومتاحف.. الخ.
لكن حتى لو ت

وفَّر جُل ذلك، أو حتى كله، وبقيت المناهج الدراسية المعتمدة هي ذاتها، والرؤية أو الفلسفة التعليمية هي نفسها المتبعة الآن، فان مخرجات التعليم، من حيث الجوهر، ستبقى كما هي، ولن نشهد النهضة التعليمية المنشودة التي ما انفك المفكرون العرب ذوي البصيرة السليمة يطالبون بها، منذ أن كتب طه حسين كتابه: «مستقبل الثقافة في مصر»، أو قل منذ تلك الحقبة التي عاشها الرجل، وشهدت السجال الجديد بين القديم والجديد، يوم كان الجديد يتقدم، والقديم يتصدع، حتى لو لم يَنهر.

يحثنا كاتب من المغرب، اسمه حسن مخافي، على «تخليص التعليم من الأثقال التي ينوء بها، والتي تجعل تلاميذنا يعيشون محطات انفصال يومي وهم «يدرسون» مواد بعضها يحث على العقل ويعلي من قيمته، وبعضها الآخر يحط من شأنه ويسفهه، ما أدى ويؤدي إلى خلق مواطن متردد يطبعه التذبذب في سلوكه وعلاقته بمحيطه، ويحد من حلمه بالمستقبل، لأنه تعلم أن ينظر إلى الأمام وإلى الخلف في اللحظة ذاتها، وهي مهمة مستحيلة».
_____
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *