منبع الفن، القلق. يحرك الأديبَ قلقه ليشتبك مع كل ثابت فينتج نصه؛ تلك سمة الأدب الأصيل، وفيليب روث روائي مؤثر، حاز العديد من رواياته على جوائز مرموقة، حتى إن اسمه تردد كثيرًا في إطار المستحقين لجائزة نوبل للآداب، فكيف يمكن لأديب بحجمه أن يقع أسيرًا لأفكار ثابتة بل ذات طابع استعماري لينتج نصه وفقها؟
في روايتيه “الحياة على الضد” (1988) و”العملية شايلوك: الاعتراف” (1993)، يستهدف الكاتب الأميركي قضية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وفق المروية الصهيونية وحدها من دون حضور لأي مروية أخرى مضادة. وقد يكون مفهومًا -باعتباره يهوديًا- أن يعتمد على المروية الإسرائيلية ليؤسس عالم روايته، لكن غير المفهوم ألا يضع روث تلك المروية قيد التساؤل فيعيد إنتاجها من خلال أصوات عديدة تحمل تساؤلاته تلك تجاهها، على العكس من ذلك نجده يتمثلها بكل ما تتضمنه من تزييف تاريخي للواقع بغاية تأكيدها، وهو أمر فني –قبل أن يكون أخلاقيًا-لا يفوت كاتب بحجمه.
يفسر إدوارد سعيد ذلك السلوك في كتابه “الثقافة والإمبريالية”، حيث يقول إنه “لا يُعتقد أن هؤلاء الكُتّاب محكومون بصورة ميكانيكية بأيديولوجية ما، أو بنظرة طبقية ما، أو بتفسير اقتصادي ما للتاريخ، بل إنهم كتّابٌ فيما أظن، غارقون حتى آذانهم بتاريخ مجتمعاتهم، يصوغون هذا التاريخ، ويصوغهم هم وتجاربهم الاجتماعية بمعيار مختلف”. وهو التصور نفسه الذي يلجأ إليه الناقد صديق محمد جوهر، في كتابه “شايلوك في مروج الجليل: تزييف التاريخ الفلسطيني في الرواية الأميركية المعاصرة”، لتفسير السلوك السردي الذي ينتهجه الروائيون الأميركيون حين يتصدون للقضية الفلسطينية في أعمالهم الإبداعية، حيث يستعرض جوهر ثلاثاً من أبرز الروايات الأميركية المعاصرة التي تمثل الرؤية السائدة للصراع العربي الإسرائيلي بين المثقفين والكتاب في الولايات المتحدة الأميركية، وهي روايات: “الحاج” (1984) لليون يوريس، وروايتي “الحياة على الضد” و”العملية شايلوك” لفيليب روث.
يعتمد جوهر على المنهج النقدي الذي أسماه إدوارد سعيد بـ”القراءات التأويلية” في تحليله للروايات الثلاث، للوصول إلى تشكيل صورة للفلسطيني ووطنه كما ظهرت في تلك الروايات، وهي الصورة التي يمكن إجمالها في اتجاهين: الأول صهيوني يرى أن فلسطين لم تصبح موجودة إلا باحتلال إسرائيل لها، والاتجاه الثاني فيهمش المروية الفلسطينية على حساب إبراز الصهيونية.
ويمثل فيليب روث -بحسب رصد الناقد- الاتجاه الثاني، حيث يشير جوهر إلى أن “روث قدم النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من وجهة نظر الصهاينة الغازين المنتصرين، في الوقت الذي أنكر فيه الروائي تمامًا على الفلسطينيين المهزومين حق الكلام من دون مُعَبِّر واحد عن رؤيتهم في هذا النزاع الطويل الأمد”. فتمثل رواية “الحياة على الضد” إعادة إنتاج للروايات والقصص الغربية الاستعمارية، وفيها يصير الفلسطينيون المقتلعون من وطنهم وأرضهم موضوعاتٍ، ومواد ثقافية تسلط عليها أضواء الاستشراق، ويتم تهميش البشر فيها ليتناسبوا مع صورتهم الذهنية النموذجية المستقرة في التصنيف الاستعماري للأجناس المنحطة.
ففي “الحياة على الضد” يصور روث العرب الفلسطينيين بوصفهم سفَّاحين لا رحمة عندهم، ويسترجع صورة المعاناة، والآلام التي تقع على الإسرائيليين جرَّاء تعرضهم لعنف العرب، وعدوانهم. فهو على سبيل المثال يذكر للقارئ عملية الذبح المريعة التي أزهقت روح شقيق الصحافي اليهودي المعتدل، شوقي إلحنان، على أيدي الجنود السوريين إبان حرب الأيام الستة العام 1967. في حين نرى الجيش الإسرائيلي وقد صورته الرواية في أبهى صورة وأمثلها، فهو المؤسسة الإسرائيلية التي لا تستخدم العنف ضد اللاجئين الفلسطينيين سوى في المواقف الاستثنائية التي يُظهر فيها الفلسطينيون والعرب همجًـا، ومتوحشين يستحقون العقاب جزاء ذلك. وهناك اليهودي الشرقي الذي يعمل سائق تاكسي، والذي يخبر ناثان زكرمان –بطل الرواية- أن العرب الفلسطينيين قتلوا ابنه الوحيد، وراح يريه صورة شاب يافع يرتدي زي الجيش الإسرائيلي: “بعضهم قذفه بقنبلة فتحول على الفور إلى أشلاء: لم يتبقَ منه شيء، لا حذاء، ولا شيء آخر، لقد قتلوه ولن يعود في مقدوري رؤية ابني مجددًا” (“الحياة على الضد”، ص 106).
أما الاتجاه الأول، وهو الأشد مباشرة وتمثلاً للخطاب الصهيوني، فتعكسه رواية ليون يوريس “الحاج”، ويلمح جوهر إلى أن هذه الرواية نُشرت “في آونة بلغ فيها النقاش، والجدل ذروته حول شرعية السياسات التوسعية لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، وبذلك شاركت الرواية في تحويل انتباه الجمهور، الغربي عامة، والأميركي خاصة، عن الاهتمام بالنتائج المأساوية للغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982، حين ذبحتْ إسرائيل المواطنين الفلسطينيين العُزل في مخيمات اللاجئين بصبرا وشاتيلا واحتلت بيروت”.
وشاركت رواية “الحاج” في استغلال الصورة الذهنية التخريبية للعربي بثقافته العربية وتقاليده الإسلامية. فقد نُشرت للمرة الأولى في العام 1984، في وقت مفصلي أسماه إدوارد سعيد “زمن الخوف العظيم من الإرهاب (1983 – 1987)”، “حين بلغت الهيستريا الغربية مداها في ما يتعلق بقضايا: التعصب العربي/الإسلامي، وخطف الطائرات المدنية، وتفجير القنابل، واحتجاز الرهائن الغربيين”.
وتصور رواية “الحاج”، فلسطين، كمنطقة بدائية تقع خارج نطاق التاريخ الإنساني، وأن التاريخ الحقيقي لفلسطين إنما يبدأ مع مجيء الاستعمار الصهيوني إليها وغزوه لها، فإنه يؤكد أن فلسطين ما كانت عندئذ إلا صحراء خاوية، وأرضًا خربة مهملة- بحسب قراءة جوهر، أو كما يقول يوريس في روايته، إن “الأرض الجرداء الكئيبة التي طالما تم اغتصاب حقولها، ومورس الإقطاع على فلاحيها، وأهملها العثمانيون والعرب، تدب فيها الآن الحياة من جديد” و”تنبثق من بين التلال الرملية، شمالي الميناء القديم في يافا، مدينة يهودية جديدة هي تل أبيب أو تلة الربيع”. و”بفضل” الاستعمار الصهيوني، فإن الأرض الجرداء القاحلة التي أهملها العرب، والأتراك قرونًا طويلة استحالت مجتمعات حضارية، ومستوطنات يهودية، يطلق عليها بالعبرية “كيبوتزيم”.. و”بفضل العمل الدؤوب الذي اضطلع به المستوطنون اليهود، تناهت إلى الأسماع ألحان الربيع العذبة متطايرة في كل أرجاء فلسطين”.
ولا تقف رواية “الحاج” عند تاريخ الأرض نفسها، بل تمتد إلى تاريخ الشعب الذي تصوره كشرذمة من الجنود المغيرين الذين جاؤوا مع جيش النبي محمد لتحرير فلسطين –وهي مغالطة تاريخية بالأساس حيث لم يفتح النبي فلسطين أصلاً! وبالتالي فإن هؤلاء الشرذمة ليسوا إلا مجموعة من الرعاة الوهابيين –بحسب وصف الرواية- الذين لا أرض لهم ولا تاريخ، وليسوا إلا مجموعة من المجرمين السفلة الذين لا يرتقون حتى للاندماج في المجتمع الإسرائيلي.
ويجتهد جوهر في تصوير الأوجه المختلفة للسلوك السردي الذي انتهجه الروائيان، وفق الأيديولوجية الأميركية التي تعيد إنتاج أسطورة المُخلص الكوني. ويقارب بين تصور الروائيين عن فلسطين وشعبها، وبين التصور الأميركي عن الهنود الحمر أو عن الشعوب التي سعت إلى استعمارها. فهم لا ينتجون المروية الصهيونية بميراثها التوراتي والإسرائيلي فحسب، وإنما يعيدون إنتاجها وفق التاريخ الأميركي الاستعماري أيضًا.
ويثير الكتاب العديد من التساؤلات، ويفتح الأفق أمام إعادة قراءة صورة المستعمَر، سواء كان عربيًا أو غير عربي، من خلال ما تنتجه منظومة صناعة الثقافية الأميركية، أو أن الكتاب يكشف كيف يمكن لأديب مثل روث وغيره، أن يتحول عن قصد أو عن غير قصد إلى جزء من تلك المنظومة الدعائية، فيصير هو الآخر مُستعمِراً يرى في نفسه-حسبما يقول جوهر- “ضرورة لا غنى عنها إطلاقًا بالنسبة إلى أولئك المستعمَرين، وأن انقضاضه على تاريخ أولئك المستعمَرين هو أمر لا مناص منه، بل ويتعدى ذلك، فيستحيل ضرورة مطلقة لا مهرب منها ولا فكاك عنها”.
_________ (*) صدر كتاب ” شايلوك في مروج الجليل: تزييف التاريخ الفلسطيني في الرواية الأميركية المعاصرة” عن دار نشر “صفصافة” في القاهرة.
وصديق محمد جوهر، كاتب وناقد ومترجم، حصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنكليزي من جامعة إنديانا في الولايات المتحدة. ويشغل حاليًا منصب رئيس قسم الأدب الإنكليزي في جامعة الإمارات العربية المتحدة. صدرت له كتب نقدية وترجمات.