*مؤمن سمير
( ثقافات )
في هذه الفترة الملتبسة من تاريخ الوطن يصح لنا ، نحن المعنيين بالسؤال الثقافي الذين جُبلنا على تعاطيه فكراً ومساءلةً وإبداعاً وارتضينا به بوابةً لمقاربة العالم والانفعال به والتفاعل معه .. أن نتساءل ، عن وفي ، مشروعية الثقافة كقيمة مؤسسة رئيسة وعن التثاقف في طور الممارسة العملية ، باعتبارهما حائط الصد ضد الانهيارات المتعاقبة وكضمير ومعيار دال وكاشف ، في ظل البحر المتلاطم الذي تعبر عنه حالة عدم المعيارية والسيولة التاريخية التي تحوطنا اليوم .. هل تصلح قيم الثقافة وما ترسخه في وعي البشر وما تطمح لأن ينسرب إلى تكوين ودقائق الإنسان ، لتُهَيِّئَهُ بعدها للنظر المتوازن العقلاني والتفكير المنهجي وامتلاك النظرة النقدية واتساع الرؤية وقبول الآخر أياً كان .. أقول هل تصلح هذه القيمة الجليلة لمقاربة الآني المتشابك والعصي حتى عن الملاحقة .. أو بالأحرى ، هل ما تزال تتمتع اليوم بنفس المكانة التي ظلت تتبوأها لفترات ليست قليلة من عمر الوعي ، نَعِمَ فيها المفكرون والمبدعون بصفة ودور المشاعل والشموس وحاملو مفاتيح الحق والخير والجمال في هذا العالم ..؟! لكن بما أن الواقع فرض علينا أن نكون منصفين وواقعيين ونعترف بالتغيرات الهائلة التي مرت وتمر بالعالم ودفعت بالإنسان لأن يفكك كل المستقرات التي سكن تحتها طويلاً ويُعمل النظر فيها وينزع عنها القداسة .. وأن نعتبر فكرة الثبات والاستقرار من الأساطير والحفريات .. وأن نرى الإيمان المشترك الآن بين البشر هو تصدير فكرة ويقين حتمية التغيير المتلاحق ومشروعيته .. وأن نقول صباح مساء إن التحولات التكنولوجية والسياسية والقيمية والتقنية .. الخ صارت أسرع من وعي الإنسان بها وأكبر من أي ادعاء بالإحاطة الكاملة .. بل وأن نُحَيِّي الوعي الجمعي للبشر كلما أخذ يجول في الطرقات مجللاً بالنسبية وبعدم منطقية أي غرور بالمعرفة .. مادام الأمر هكذا .. فلا مناص من رسم المشهد هكذا :
كلنا نلهث .. وكلنا نحاول أن نجد لنا مكاناً نستوعبه ويستوعبنا ، اليوم على الأقل ..
في وسط كل هذا يكون على المثقف عبءٌ أكثر تعقيداً وتركيباً .. لقد تحول من وضعية الرائي ومالك المعرفة وبوصلتها إلى مجرد واحد من المساهمين في سيرورة هذا الواقع ، وبأهمية تتساوى مع الجميع وبلا أي تميز .. لهذا تحتم عليه أن يعي موقعه أولاً ويتفهم ويستوعب آليات هذا التسارع المجنون وينزل قيمه على الواقع الفعلي كيلا ينسحب ويتجمد تحت نظرياته وأوراقه .. ثم بعد مرحلة التعايش وسبر أغوار الواقع عن قرب والمشاركة الأكثر التصاقاً لأركانه وأجزاءه ، يتحول لدوره المفترض والواجب – لم يعد لائقاً أن نقول الدور الأسمى – في الفهم والقراءة الواعية والتفسير والاقتراح والبحث عن الثابت والمقيم وسط أمواج العابر وتياراته التي تتلون بألوان السرعة والتقدم لتخدع ذلك الذي يرضى من الأمور بسطوحها ويكتفي بالخارجي ولا ينفد إلى القلب والمعنى المستتر … إلى الحق أو الحقيقة ، أياً كان شكلها واتجاهها وتموضعها في السياق هذا أو ذاك وموقعها الآني القريب وكذا الأبعد ، هناكَ على مرمى البصر ..