الآن بالتحديد، في هذه الأيام التي أخاف فيها الموت أشد الخوف، أمر بتجربة غريبة على متن طائرة.
كنت في الطريق إلى شيكاغو للمشاركة في مؤتمر. وبدأت حالة الطوارئ ونحن نقترب من المطار. وهذا شيء طالما خفته. فكلما استقللت طائرة، حاولت الوصول إلى سلام مع العالم والتوصل إلى زاوية نهائية للنظر في حياتي. وأفعل ذلك دائما مرتين في كل رحلة، مرة قبل الإقلاع ومرة قبل الهبوط. ولكن لم يحدث من قبل أي سوء في كل تلك الرحلات، باستثناء الاضطرابات العادية، برغم أنني لم أكن أعرف بالطبع حينما تبدأ الاضطرابات أن الأمر لا يعدو الاضطرابات العادية.
في هذه المرة هناك مشكلة في الأجنحة. فبعض الصفائح التي يفترض أن تبطئ هبوط الطائرة وهي تقترب من المدرج لم تنفتح، وصار لزاما على الطائرة أن تهبط إلى الأرض بسرعة كبيرة. وكان هناك خطر أن تتعرض عند هبوطها بهذه السرعة الكبيرة لانفجار إطار من إطاراتها، وقد تبدأ الطائرة على إثر ذلك في الدوران حول نفسها وتتحطم، أو قد تنهار العجلات لتنزلق الطائرة على بطنها فتشب فيها النار.
فزعت من إعلان الطيار. وكان الفزع ماديا للغاية، أشبه بسهم ثلجي ينفذ في عمودي الفقري. بإعلانه ذلك تغيَّر كل شيء: قد نموت جميعا في غضون الساعة التالية. وبحثا عن راحة أو رفقة لي في خوفي نظرت إلى المرأة الجالسة في المقعد المجاور، ولكنني لم أجد فيها عونا، فقد كانت مغمضة مديرة وجهها ناحية الشباك. نظرت إلى ركاب آخرين، ولكن الجميع كانوا منهمكين في استيعاب ما قاله الطيار. أغمضت أنا الأخرى، وتشبثت في ذراعي مقعدي.
مرَّ بعض الوقت، ثم قدَّم كبير المضيفين إيضاحا، فأعلن عن الوقت التقريبي الذي سوف نستغرقه في الدوران أعلى المطار. كان رجلا هادئا. أبقيت عيني مركزتين عليه وهو يتكلم. وإذ ذاك تعلمت شيئا اختزنته لأتذكره لاحقا في رحلات جوية أخرى إن كانت هناك رحلات جوية أخرى: وهو أنني ينبغي إذا ما أصابني القلق أن أنظر إلى وجه المضيف أو المضيفة وأبحث في التعبير المرتسم عليه عن مؤشر على القلق من عدمه. كان وجه المضيف هادئا مستريحا. قال إن الحالة الطارئة التي نمر بها ليست من أسوأ الحالات. نظرت إلى مقاعد الناحية الأخرى من الممر فالتقت عيناي بعيني راكب في الستينات من عمره وبدا عليه الهدوء هو الآخر. قال إنه ركب الطائرات لأكثر من تسعة ملايين ميل منذ عام 1981 ومرَّ بعدد من المواقف الطارئة. ولم يمض إلى وصف أي منها.
ولكن كبير المضيفين بدأ في ذلك الوقت يفعل شيئا زادني خوفا: كان لا يزال هادئا، لكنني بدأت أفكر أنه قد يكون هدوء التسليم بالقدر، ولعل هذه القدريّة تكوَّنت لديه من طول تدربه وخبرته، أو ربما هو ببساطة قبول بالنهاية، فبدأ يشرح للجالسين في الصف الأول نقطة بعد نقطة ما ينبغي أن يفعلوه في حالة تعرضه هو شخصيا لما يعجزه عن التصرف. وبينما أشاهده في شرحه لهم، تحولوا في نظري فجأة، فارتفعوا من مجرد ركاب إلى مساعدين أو نواب له، ورأيته هو نفسه يتدنّى إلى عاجز أو ميت أو مشلول. كان التحطم المميت وشيكا، ولو في خيالي أنا على الأقل. وعند تلك النقطة أدركت أن أي شيء عدا السلوك الروتيني الذي يسلكه مضيف أو مضيفة قد يطلق بداخلي أجراس الإنذار.
لعل حيواتنا أوشكت على الانتهاء. وكان ذلك يقتضي تصالحا فوريا مع فكرة الموت، ويقتضي قرارا فوريا في ما يتعلق بالطريقة المثلى للرحيل عن هذا العالم. ما آخر الأفكار التي ينبغي أن تخطر لي على هذه الأرض، في هذه الحياة؟ لم يكن الأمر يتعلّق بالبحث عن عزاء بل عن رضا، عن طريقة ما لليقين بأنه لا بأس في أن أموت الآن. في البداية، مضيت أودّع أشخاصا معينين قريبين مني. ثم كان عليّ أن أجد فكرة أضخم، للحظة النهاية الأخيرة ذاتها، وما عثرت عليه ورأيت أنه الأمثل لم يكن إلا فكرة أنني شديدة الضآلة في قلب هذا الكون الهائل. كان لا بد أن أستحضر صورة الكون الهائل، وجميع المجرات، وأتذكر إلى أي مدى أنا ضئيلة، وبعد ذلك لا يصير هناك بأس في أن أموت في التو. الأشياء تموت طول الوقت، والكون غامض، وعصر جليدي آخر قادم على أي حال، وحضارتنا سوف تختفي، فلم يكن من بأس في أن أموت في تلك اللحظة.
كنت أفكر في تلك الفكرة الضخمة، وقد عدت أغمض مرة أخرى، عاقدة كلتا يدي إلى أن تعرّقتا، مرتكزة بقدمي بقوة في قاعدة المقعد المواجه لي. ما كان لينفعني في شيء أن أرتكز بقدمي هكذا لو تحطمت الطائرة. ولكن كان عليَّ أن أفعل ما في وسعي، كان عليَّ أن أؤكد الجزء الضئيل المتاح لي من السيطرة على الموقف. وحتى في غمار خوفي، بدا لي مثيرا أن أفكر أن عليَّ أن أؤكد على بعض السيطرة في موقف لا سيطرة لأحد عليه. ثم بدأت أتوقف عن أي فعل على الإطلاق وألاحظ شيئا آخر مثيرا للاهتمام في ما كان يجري بداخلي، أنني ظللت مهمومة طوال الوقت الذي شعرت فيه أن عليَّ أن أفعل شيئا ما، ثم لمّا تخليت عن المسؤولية تماما وتوقفت عن أي محاولة لعمل أي شيء، صرت أهدأ نسبيا، برغم أن الأرض كانت تدور وتدور من تحتنا، وبرغم أننا كنا على ارتفاع شاهق في طائرة معطوبة تواجه مشكلات في الهبوط.
ظلت الطائرة تدور لوقت طويل. وعلمت في وقت لاحق، أو في الوقت نفسه، أنه أثناء دوراننا ذلك كان ثمة استعدادات تجري على الأرض لحالة هبوط طارئة. كان يجري إخلاء المدرج الأطول لأن الطائرة ستهبط بسرعة شديدة ومن ثم سوف تحتاج إلى قطع مسافة طويلة لكي تبطئ. جيء بعربات الإطفاء فاصطفت على جانبي المدرج. كانت المشكلات المحتملة في حالة هبوط سريع كذلك كثيرة جدا. فقد تنخلع الإطارات أو تتحطم، فتزحف الطائرة حينئذ على بطنها، والاحتكاك الناجم عن ذلك قد يفضي إلى حريق، أو تتسبب سرعة الطائرة في رفع مقدمتها أو تحطمها. وإذا حدث وزحفت الطائرة على بطنها، أو انخلع إطار أو انفجر، فقد يفقد الطيار السيطرة على المقود، وقد تنحرف الطائرة عن المدرج وتتحطم.
في النهاية بدا المدرج واضحا وعربات الإطفاء في أماكنها، وبدأ الطيار ينخفض. ولم نلاحظ كركاب أي شيء خارج عن المعتاد في طريقة طيرانه أثناء الانخفاض، ولكن عندما حانت لحظة الهبوط توترت أعصابنا جميعا: فقبل ذلك، كانت الكارثة القادمة لم تزل في المستقبل القريب وكنا لم نزل آمنين، أما في ذلك الوقت فقد صارت الكارثة على قرب لحظات.
في الهبوط الطبيعي، تنزل الطائرة بانحدار شديد، ربما يصل إلى زاوية ثلاثين، وفي الغالب ترتطم أو تثب وثبة بسيطة على الأرض لحظة التماس. لكن لم يكن بوسعنا ولا من الأمان ونحن على تلك السرعة الكبيرة أن نفعل ذلك، فظل الطيار ينخفض في دوائر واسعة طوال فترة اقترابه من الأرض، حتى وصل إلى ارتفاع ضئيل للغاية، ولم تعد لمساره زاوية تقريبا مع الأرض. ولكي يستفيد من طول المدرج بالكامل في تخفيض سرعته، لمس الأرض بمجرد أن وصل إلى حافة المدرج، واضعا الإطارات على الأرض بغاية الرقة فلم نكد نشعر بها، وكان الهبوط أسلس مما توقعت قبل ذلك. ثم أبطأ الطائرة بصورة تدريجية للغاية إلى أن بتنا على السرعة الطبيعية. نفّذ الطيار هبوطا جميلا، وبتنا آمنين.
وبطبيعة الحال صفَّق الركاب جميعا وعلا صياحهم، وفي الوقت نفسه، أخذوا ينظرون إلى بعضهم بعضا ويحملقون من الشبابيك في رهبة إلى عربات الإطفاء التي لم نحتج إليها. وفيما خفت التهليل، علا صوت الحديث والضحك في الطائرة. حكى لي الرجل الجالس على مقعد الناحية الأخرى من الممر عن الكوارث الوشيكة الأخرى التي مرَّ بها، ومن بينها حريق شبَّ على متن الطائرة. وقال لنا كبير المضيفين وقد بات أكثر ميلا للثرثرة هو الآخر إننا صرنا على الأرض، وإن الطيارين يجرِّبون هذا النوع من الهبوط مرات كثيرة في تدريباتهم، وإن ذلك لو كان قيل لنا من قبل لكان أنفع لنا، أو لعلنا ما كنا لنجده كذلك.
كنت أفكر في الهبوط وأنا أتناول العشاء في تلك الليلة في مطعم وديع يغصّ بالرواد. كنت أنظر في وجه بيضة مقلية صغيرة للغاية، بيضة سمَّان، في طبقي، وخطر لي أن النتيجة لو كانت اختلفت، لبقيت تلك البيضة ترفع نظرها في مثل تلك اللحظة بالذات إلى وجه شخص، لكنه شخص آخر، غيري أنا. كانت البيضة لترفع نظرها إلى شوكة مختلفة، أو حتى الشوكة نفسها، ولكنها في يد أخرى. يدي أنا كانت لتكون في مكان آخر، ربما في مشرحة بشيكاغو.
كنت أكتب أيضا ما أمكنني تذكره عن الهبوط، بينما يبرد عشائي. قال النادل المسؤول عن منضدتي شيئا من قبيل أن «قلمك يتحرك أسرع مما تتحرك شوكتك» ثم أضاف فكرة لاحقة «وذلك ربما ما ينبغي أن يكون». وعندها أحببته أكثر. لم أكن أحبه من قبل، بخصلات شعره النحيلة ونكاته الودودة أكثر مما ينبغي.
وفي الخلفية، أثناء ذلك، في مكتب الاستقبال في الفندق، سأل موظف رجلا إنجليزيا نحيلا، يقظا، رمادي اللحية «ما اسمك؟» فأجاب «موريس. ميم واو راء ياء سين».
الفئران
تعيش الفئران في جدراننا لكنها لا تزعج مطبخنا. ونحن مسرورن بذلك لكننا لا نفهم لماذا لا تأتي إلى مطبخنا حيث نضع لها المصائد، مثل تدخل مطابخ جيراننا. وبرغم سرورنا نحن غاضبون لأن الفئران تتصرف كما لو أن في مطبخنا عيبا. وما يزيدنا حيرة في هذا الأمر أن منزلنا أقل ترتيبا من بيوت جيراننا. والأكل المكشوف في مطبخنا أكثر، والمزيد من الفتات وقشر البصل الوسخ مرمي على قواعد الخزانات. في الحقيقة هناك الكثير للغاية من الأكل المكشوف في المطبخ لدرجة أنني أفكر أن الفئران قد انهزمت أمامه. ففي مطبخ نظيف تواجه الفئران تحدي العثور على القدر الكافي من الأكل ليلة بعد ليلة فيتسنى لها البقاء حتى حلول الربيع، بصبر على الصيد وقرض على مدار الساعة تلو الساعة إلى أن تشبع. أما في مطبخنا فتجد نفسها في مواجهة تجربة هائلة لا تستطيع التعامل معها. قد تغامر ببضع خطوات، لكن المشاهد والروائح الطاغية سرعان ما تطردها إلى جحورها، مضطربة، خجلة من عجزها عما يجدر بها من تنقيب وبحث.
النزهة
غضْبة على مقربة من الطريق، رفض للكلام على الطريق، صمت وسط سنديان الغابة، صمت على جسر السكة الحديدية، محاولة للتحلي بالود في عرض الماء، رفض لإنهاء الشجار على الصخور المسطحة، صرخة غضب على الضفة الترابية المتحدرة، نحيب وسط الشجيرات.
سلوك غريب
تأملوا الظروف وكيف أنها السبب. لست في الحقيقة بالشخص الغريب وإن كنت أضع المزيد والمزيد من فتات المناديل الورقية في أذني وأربط وشاحا حول رأسي: عندما كنت أعيش وحدي كان لديّ من الصمت كل ما كنت بحاجة إليه.
خوف
كلَّ صباح تقريبا، تخرج امرأة معينة من مجموعتنا من بيتها وهي تجري بوجه مبيضّ ومعطف يرفرف وراءها. تصيح «طوارئ، طوارئ» فيجري إليها أحدنا ويمسك بها إلى أن تطمئن ويتبدد خوفها. نعرف أنها تصطنع ذلك، وأن شيئا لم يحدث لها. ولكننا نفهم، لأنه ليس بيننا تقريبا من لم يتأثر في وقت ما لدرجة أن يفعل ما تفعله، وفي كل مرة، يلزم بذل قوتنا كلها، بل وقوة أصدقائنا وأسرنا، لتهدئتنا.
أشياء ضائعة
هي ضائعة وفي الوقت نفسه غير ضائعة، بل في موضع ما من العالم. أغلبها أشياء صغيرة، ولو أن اثنين كبيران، أحدهما معطف والآخر كلب. من الأشياء الصغيرة، شيء معين هو خاتم، وشيء معين هو زر. هي ضائعة مني ومن حيث أنا، ولكنها لم ترح. هي في مكان ما، وهي موجودة بالنسبة لشخص آخر، ربما. لكن لو لم يكن الخاتم موجودا بالنسبة لشخص آخر، فهو يبقى غير ضائع بالنسبة لنفسه، بل موجود، فقط ليس حيثما أوجد، والزر أيضا موجود، لكن ليس حيثما أنا.
_________________
ليديا ديفيس، كاتبة ومترجمة أمريكية، لها رواية وحيدة هي «نهاية القصة» (1995) وست مجموعات قصصية، ومن ترجماتها عن الفرنسية «طريق الإوزة البرية» (2002) و«مدام بوفاري» (2010). حصلت على زمالة مكأرثر سنة 2003 وجائزة مانبوكر الدولية سنة 2013. ومنحتها الحكومة الفرنسية أخيرا وسام ضباط الفنون والآداب.
* نشرت قصة «الهبوط» في ديلي تلجراف في 13 يناير 2012، والقصص الأخرى في ربيع 1995 من مجلة conjunctions
______
*جريدة عُمان