أصبح اليوم من المسلّم به في المعارف الحديثة، ووفق العلوم الإنسانيّة أنّ اللّغة هي الّتي تؤسّس الذّات بتصوّراتها ورؤاها للعالم، فليس كلّ تمثّلنا لما حولنا إلاّ نتاج ألفاظ وعبارات ومصطلحات نعتمدها. وممّا نلاحظه أحيانا وجود بعض العبارات والمصطلحات الّتي وإن شاعت ودارت على الألسن، فإنّها تظلّ ذات معنى ضبابيّ وغير واضح لدى أغلب مستعمليها، وإنّنا نذهب إلى أنّ مصطلح «التّصوّف» هو من أكثر المصطلحات دوراناً على ألسنة المسلمين مع عجز الكثيرين من مستعمليه على تحديده وتوضيحه. وسنحاول في هذا المقال أن نبيّن مفهوم التّصوّف وأسسه الرّوحانيّة في إيجاز نرجوه غير مخلّ.
لنبدأ بالتّعريف بالسّلب، ونحدّد ما ليس من التّصوّف ممّا قد يلتبس به لدى البعض.
= التّصوّف ليس الإسلام الفلكلوريّ المتّصل بالاحتفالات في أضرحة الأولياء الصّالحين وأضرحتهم.
= التّصوّف ليس مرادفا للزّهد بالمعنى الّذي انتشر في تاريخ المسلمين في القرن الثّاني للهجرة والّذي جسّمه، فيمن جسّمه، أبو العتاهية. إنّ الزّهد يقوم على العزوف المادّي عن الدّنيا والانشغال بشؤون الآخرة، أمّا التّصوّف، فهو يعدّ الزّهد شرطا لازماً لا كافياً إذ تنضاف إليه رؤية كاملة للوجود تتجاوز الزّهد وإن تضمّنته.
نأتي الآن إلى التّعريف بالإيجاب.
ولن نقف طويلاً على الاختلافات اللّغوية حول الدّلالة الاشتقاقيّة للتّصوّف، فسواء اعتبرنا التّصوّف مِن لبس الصّوف، أو مِن الصّفاء أو مِن الصّفوة، فإنّ التّصوّف يظلّ طريقا متميّزا مخصوصا يُعرف بطريق الحقيقة، متميّزا عن الفقه الّذي هو طريق الشّريعة. ولا يعني هذا أنّ الطّريقين متقابلان، لكن يعني أنّهما يشيران إلى بعدين مختلفين من أبعاد الحياة، فالفقه يهتمّ باستنباط الأحكام القانونيّة الّتي تمكّن البشر من التّعايش، والبعد القانوني هو أسّ الشّريعة.
أمّا التّصوّف، فطريق روحانيّ يقدّم رؤية وجوديّة عميقة للعالم، ولا يعني هذا أنّ التّصوّف عرفان فحسب، وإنّما هو يتجسّم أيضا في السّلوك، على أنّ سلوك المتصوّف لا يكون نتيجة للالتزام بالقانون الخارجيّ فحسب، وإنّما يكون نتيجة لرؤيته العميقة للوجود.
التوحيد هو الأساس
أساس التّصوّف هو التّوحيد، والتّوحيد ممّا يتّفق فيه المسلمون جميعاً غير أنّ للتّوحيد لدى المتصوّفة معنى متميّزاً، إذ إنّهم يذهبون إلى أنّه لا موجود إلاّ الله تعالى، فالتّوحيد بالنّسبة إلى المتصوّفة هو توحيد الحقّ إيّاه نفسه، إذ لا موجود جوهراً إلاّه.
والنّاظر في الشّائع من كتابات بعض علماء المسلمين اليوم يتبيّن أنّهم يهاجمون المتصوّفة، ويبالغون في نقدهم، انطلاقا من هذا الأساس الّذي يعتبر أنّه لا موجود إلاّ الله تعالى. ويذهب بعض منتقدي المتصوّفة إلى أنّ هذا الأساس الصّوفيّ التّوحيديّ يضمر شركاً لإقراره، وفق تصوّرهم، بحلول الله تعالى في البشر. وعادة ما يستندون في هذا النّقد إلى قولة الحلاّج الشّهيرة: «ما في الجبّة إلاّ الله».
المشكل في هذا النّقد أنّه لم يفهم اللّطيفة الّتي يقوم عليها التّصوّف، وهي التّمييز بين مختلف المستويات. ولهذا السّبب تجد أهل الصّوفيّة يخشون من انتشار عرفانهم لدى العامّة إذ ولوج التّصوّف مبحثا أو تجربة دون تمييز بين المستويات لا يمكن أن يقود صاحبه إلاّ إلى سوء الفهم، أو إلى الرّفض والإعراض عن الصّوفيّة منهجا بل إلى تعنيف أهلها واضطهادهم، وهو ما تعرّض له عدد لا بأس به من المتصوّفين في التّاريخ.
التّمييز بين المستويات الّذي نعني هو تمييز بين مستويين أساسيّين: مستوى الظّاهر ومستوى الباطن. وقد يتساءل القارئ الفطن: إذا كنا بإزاء مستويين فكيف يتلاءم ذلك مع مفهوم التّوحيد السّابق ذكره؟
هذا السّؤال الوجيه سيكون منطلق تعريف التّصوّف. التّصوّف هو طريق روحانيّة قوامها التّجربة الخاصّة ترى أن لا موجود في الحقّ إلاّ الله تعالى، وأنّ سائر الموجودات أي العالم الظّاهر ليس لها وجود في ذاتها، وإنّما هي مفتقرة إلى الحقّ في وجودها. والمقصود بالافتقار الحاجة إلى الآخر، فكلّ موجود في الحياة الدّنيا هو في علاقة مع غيره، ولا وجود له في ذاته.بعبارة أخرى، الله تعالى هو الوجود الحقّ وهو الباطن، والعالم بما فيه ومن فيه يمثّل عالم الأشكال الظّاهر، على أنّ هذا العالم الظّاهر ليس مستقلاً عن الحقّ إذ لا يمكن أن يوجد دونه.
يمكن أن نقول في تبسيط بيداغوجيّ، إنّ الظّاهر يشمل عالم الصّور أو الأشكال أي إنّه يشمل كلّ ما يمكن أن يُدرك من أناس وحيوان ونبات وجماد وأفكار وأحاسيس وانفعالات إلخ.
ومن خصائص هذا العالم الظّاهر أنّه متحرّك متبدّل يخضع لتصاريف الزّمان فلا يثبت على حال. على أنّ عالم المدرَكات هذا لا يمكن أن يوجد دون الذّات المدرِكة الجوهريّة، أي إنّ عالم المدركات مفتقر إلى خالقه الّذي هو الموجود الحقّ الّذي لا يفتقر إلى أحد. وهذا الحقّ هو الباطن، ومن خصائصه أنّه غير متجسّم، ثابت في لحظة الأبديّة، غير أنّ خاصّيته الأساسيّة هي أنّه لا يمكن تمثيله رمزيّا، فاللّغة تخطئه إذ كيف لما هو مفتقر في وجوده إلى الحقّ أن يحيل على الحقّ؟ لذلك كان التّصوّف تجربة لا يمكن أن تقولها اللّغة، وإنّما تشير فحسب إليها. ولذلك قال النّفّري: «كلّما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة».
إنّ تجربة التّصوّف هي وعي عميق نفسيّ وروحانيّ بأنّ الله تعالى هو الموجود الأوحد، فالإنسان بجسده، وبكلّ ما يمرّ به في الحياة وتصاريفها، وبكلّ ضروب سلوكه ينتمي إلى العالم الظّاهر أو عالم الصّور والأشكال، أمّا روح الإنسان، فهي جوهره الباطن الّذي به يُدرك العالم الظّاهر.
ومن هنا، فإنّ المتصوّف يكون زاهدا في أشكال العالم الظّاهر،لأنّه واع بأنّها، بما في ذلك شكله وصورته، مارّة وعابرة. وهذا لا يعني أنّ المتصوّف لا يفعل ولا يضرب في الأرض عملاً ونشاطا، لكنّه يعني أمرين، الأوّل، أنّ هذا العمل يكون فحسب لوجه الله تعالى، أي أنّ المتصوّف يهتمّ بالعمل في ذاته لا بنتيجته الّتي هي من أمر الله تعالى وحده.
والأمر الثّاني، أنّ المتصوّف يكون قابلاً لكلّ ما يحدث له ولسواه في العالم الظّاهر لأنّه يعرف أنّ كلّ ما يحدث هو من حكمة الله تعالى في الكون، لذلك تجد المتصوّف لا يدعو الله تعالى حتّى تتحقّق إرادته، بل حتّى تتحقّق إرادة الله تعالى في الكون. وهو ما عبّر عنه ابن عربي بـ«من لا يسأل للاستعجال ولا للإمكان وإنّما يسأل امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله:«ادعوني أستجب لكم»(غافر40,60) فهو العبد المحض».
ولمّا كانت كلّ الظّواهر فانية وزائلة، فإنّ المتصوّف وإن تعامل معها، بحكم وجوده على قيد الحياة، يحاول أن يتذكّر دوما أنّ الله تعالى هو الموجود الحقّ. وبذلك يكون المتصوّف في الحضرة الإلهيّة دوما. وفي هذا المقام يمكن أن نفهم معنى الذّكر بصفته استذكاراً للحقّ في كلّ لحظة وآن، ويمكن أن نفهم أيضا عبارة الحلاّج الشّهيرة: «ما في الجبّة إلاّ الله». إنّ الحلاّج لا يعني أن الإنسان تحوّل إلى إله، ولكنّه يعني أنّ الأنا البشريّة لم يعد لها من وجود مستقلّ عن خالقها.
تقاطع
إنّ التّصوّف بصفته طريقاً روحانياً يقوم على التّوحيد الجوهريّ يتقاطع مع كثير من التّقاليد الرّوحانيّة القديمة والحديثة شأن التّاويّة (le taoisme) والأدفيتافيدانتا (l’advaita védanta)، كما أنّ للدّيانات الكتابيّة الأخرى فروعها الباطنيّة، فنجد ضرباً من العرفان الصّوفيّ الباطنيّ يُعرف بالميستيسيزم(le ysticisme) لدى المسيحيّين وبالقبالا (la kabbale) لدى اليهود.
ولكلّ من هذه التّقاليد الرّوحانيّة أساليب وطرق تبلغ بها الحقيقة. وكذا الشّأن بالنّسبة إلى المتصوّفة المسلمين الّذين يعمد أغلبهم إلى طريق تدريجيّة نحو المعرفة يكون فيها طالب المعرفة في البدء مريداً يتلقّى المعرفة على يد شيخ، ويترقّى المراتب والمقامات أو الأحوال إلى آخر درجات السّلّم العرفانيّة.
على أنّ تجربة التّصوّف تظلّ أيضا مفتوحة لكلّ من أراد أن يغوص في كتب الرّوحانيّات الإسلاميّة القديمة والحديثة شوقاً إلى الله تعالى. ومن جهة أخرى، فإنّ الفكر الصّوفيّ الّذي يقدّم أجوبة فلسفيّة عميقة حول الوجو،د ومعناه يمكن أن يكون من السّبل الّتي تعيد الاعتبار إلى قراءة أخرى للإسلام تمّ تهميشها عبر التّاريخ.
لقد كتبتُ مرّات كثيرة أنّ من مشاكل المسلمين اليوم أنّ الفقهاء انتصروا على المتصوّفة من حيث التّأثير في المخيال الجماعيّ للمسلمين. وبذلك طغت الأبعاد الشّكليّة الشّعائريّة للدّين على أبعاده الرّوحانيّة العميقة. وإنّي أعتقد أنّ الانفتاح على الفكر الصّوفي يمكن أن يكون منطلقا لإعادة الاعتبار لعنصرين جوهريّين من الإسلام هما قبول الآخر من جهة وتحقيق الإطيقا من جهة أخرى. ذلك أنّ المتصوّف، كما أسلفنا، يقبل عالم الأشكال الظّاهر في اختلافه بوصفه من إرادة الله تعالى في الكون. ومن هذا المنظور نفهم قول ابن عربي في ترجمان الأشواق:
«لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت
ركائبه فالحبّ ديني وإيماني»
إنّ هذا القبول للآخر صنو التّسامح والتّعايش وهو ما يفتقر إليه التّمثّل الشّائع للإسلام في ظلّ الإرهاب ورفض الآخر.
ومن جهة أخرى، فإنّ التّصوّف باعتباره مرورا من القشر إلى اللّبّ، يمكّن المسلم من تجاوز البعد الشّعائريّ، على أهمّيته، لينفذ إلى البعد الأخلاقيّ العميق، فيكون تجسيماً لحديث الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: «إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». والإسلام اليوم في أشدّ الحاجة إلى استرجاع هذا البعد الإطيقيّ العميق في زمن أصبح فيه التّديّن أقرب إلى الممارسات الشّكليّة في غياب لجوهر المحبّة والخير والسّلام وسائر القيم الإنسانيّة.
لقد أسلفنا أنّ الفقه قد انتصر على التّصوّف في تاريخ المسلمين، ونتج عن ذلك عصور الانحطاط، وإغلاق باب الاجتهاد وضمور الأخلاق، وصولاً إلى التّخلّف الحضاريّ والتّكنولوجيّ والإٍرهاب باسم الإسلام، فهلاّ أعدنا الاعتبار للبعد الصّوفيّ عساه يكون أحد سبل تحقيق الأبعاد الرّوحانيّة العميقة للإسلام؟
تجربة روحية خاصة
التّصوّف هو طريق روحانيّة، قوامها التّجربة الخاصّة ترى ألا موجود في الحقّ إلاّ الله تعالى، وأنّ سائر الموجودات أي العالم الظّاهر ليس لها وجود في ذاتها، وإنّما هي مفتقرة إلى الحقّ في وجودها. والمقصود بالافتقار الحاجة إلى الآخر، فكلّ موجود في الحياة الدّنيا هو في علاقة مع غيره، ولا وجود له في ذاته. بعبارة أخرى، الله تعالى هو الوجود الحقّ وهو الباطن، والعالم بما فيه ومن فيه يمثّل عالم الأشكال الظّاهر. على أنّ هذا العالم الظّاهر ليس مستقلاّ عن الحقّ إذ لا يمكن أن يوجد دونه.
التصوف والشريعة
التّصوّف طريق متميّز مخصوص يُعرف بطريق الحقيقة متميّزاً عن الفقه الذي هو طريق الشّريعة. ولا يعني هذا أنّ الطّريقين متقابلان لكن يعني أنّهما يشيران إلى بعدين مختلفين من أبعاد الحياة. فالفقه يهتمّ باستنباط الأحكام القانونيّة الّتي تمكّن البشر من التّعايش، والبعد القانوني هو أسّ الشّريعة. أمّا التّصوّف فطريق روحانيّ يقدّم رؤية وجوديّة عميقة للعالم. ولا يعني هذا أنّ التّصوّف عرفان فحسب وإنّما هو يتجسّم أيضاً في السّلوك. على أنّ سلوك المتصوّف لا يكون نتيجة للالتزام بالقانون الخارجيّ فحسب، وإنّما يكون نتيجة لرؤيته العميقة للوجود.
التوحيد هو الأساس
أساس التّصوّف هو التّوحيد، والتّوحيد ممّا يتّفق فيه المسلمون جميعاً غير أنّ للتّوحيد لدى المتصوّفة معنى متميّزاً، إذ إنّهم يذهبون إلى أنّه لا موجود إلاّ الله تعالى، فالتّوحيد بالنّسبة إلى المتصوّفة هو توحيد الحقّ إيّاه نفسه، إذ لا موجود جوهراً إلاّه.
والنّاظر في الشّائع من كتابات بعض علماء المسلمين اليوم يتبيّن أنّهم يهاجمون المتصوّفة، ويبالغون في نقدهم، انطلاقا من هذا الأساس الّذي يعتبر أنّه لا موجود إلاّ الله تعالى. ويذهب بعض منتقدي المتصوّفة إلى أنّ هذا الأساس الصّوفيّ التّوحيديّ يضمر شركاً لإقراره، وفق تصوّرهم، بحلول الله تعالى في البشر. وعادة ما يستندون في هذا النّقد إلى قولة الحلاّج الشّهيرة: «ما في الجبّة إلاّ الله».
المشكل في هذا النّقد أنّه لم يفهم اللّطيفة الّتي يقوم عليها التّصوّف، وهي التّمييز بين مختلف المستويات. ولهذا السّبب تجد أهل الصّوفيّة يخشون من انتشار عرفانهم لدى العامّة إذ ولوج التّصوّف مبحثا أو تجربة دون تمييز بين المستويات لا يمكن أن يقود صاحبه إلاّ إلى سوء الفهم، أو إلى الرّفض والإعراض عن الصّوفيّة منهجا بل إلى تعنيف أهلها واضطهادهم، وهو ما تعرّض له عدد لا بأس به من المتصوّفين في التّاريخ.
التّمييز بين المستويات الّذي نعني هو تمييز بين مستويين أساسيّين: مستوى الظّاهر ومستوى الباطن. وقد يتساءل القارئ الفطن: إذا كنا بإزاء مستويين فكيف يتلاءم ذلك مع مفهوم التّوحيد السّابق ذكره؟
هذا السّؤال الوجيه سيكون منطلق تعريف التّصوّف. التّصوّف هو طريق روحانيّة قوامها التّجربة الخاصّة ترى أن لا موجود في الحقّ إلاّ الله تعالى، وأنّ سائر الموجودات أي العالم الظّاهر ليس لها وجود في ذاتها، وإنّما هي مفتقرة إلى الحقّ في وجودها. والمقصود بالافتقار الحاجة إلى الآخر، فكلّ موجود في الحياة الدّنيا هو في علاقة مع غيره، ولا وجود له في ذاته.بعبارة أخرى، الله تعالى هو الوجود الحقّ وهو الباطن، والعالم بما فيه ومن فيه يمثّل عالم الأشكال الظّاهر، على أنّ هذا العالم الظّاهر ليس مستقلاً عن الحقّ إذ لا يمكن أن يوجد دونه.
يمكن أن نقول في تبسيط بيداغوجيّ، إنّ الظّاهر يشمل عالم الصّور أو الأشكال أي إنّه يشمل كلّ ما يمكن أن يُدرك من أناس وحيوان ونبات وجماد وأفكار وأحاسيس وانفعالات إلخ.
ومن خصائص هذا العالم الظّاهر أنّه متحرّك متبدّل يخضع لتصاريف الزّمان فلا يثبت على حال. على أنّ عالم المدرَكات هذا لا يمكن أن يوجد دون الذّات المدرِكة الجوهريّة، أي إنّ عالم المدركات مفتقر إلى خالقه الّذي هو الموجود الحقّ الّذي لا يفتقر إلى أحد. وهذا الحقّ هو الباطن، ومن خصائصه أنّه غير متجسّم، ثابت في لحظة الأبديّة، غير أنّ خاصّيته الأساسيّة هي أنّه لا يمكن تمثيله رمزيّا، فاللّغة تخطئه إذ كيف لما هو مفتقر في وجوده إلى الحقّ أن يحيل على الحقّ؟ لذلك كان التّصوّف تجربة لا يمكن أن تقولها اللّغة، وإنّما تشير فحسب إليها. ولذلك قال النّفّري: «كلّما اتّسعت الرّؤية ضاقت العبارة».
إنّ تجربة التّصوّف هي وعي عميق نفسيّ وروحانيّ بأنّ الله تعالى هو الموجود الأوحد، فالإنسان بجسده، وبكلّ ما يمرّ به في الحياة وتصاريفها، وبكلّ ضروب سلوكه ينتمي إلى العالم الظّاهر أو عالم الصّور والأشكال، أمّا روح الإنسان، فهي جوهره الباطن الّذي به يُدرك العالم الظّاهر.
ومن هنا، فإنّ المتصوّف يكون زاهدا في أشكال العالم الظّاهر،لأنّه واع بأنّها، بما في ذلك شكله وصورته، مارّة وعابرة. وهذا لا يعني أنّ المتصوّف لا يفعل ولا يضرب في الأرض عملاً ونشاطا، لكنّه يعني أمرين، الأوّل، أنّ هذا العمل يكون فحسب لوجه الله تعالى، أي أنّ المتصوّف يهتمّ بالعمل في ذاته لا بنتيجته الّتي هي من أمر الله تعالى وحده.
والأمر الثّاني، أنّ المتصوّف يكون قابلاً لكلّ ما يحدث له ولسواه في العالم الظّاهر لأنّه يعرف أنّ كلّ ما يحدث هو من حكمة الله تعالى في الكون، لذلك تجد المتصوّف لا يدعو الله تعالى حتّى تتحقّق إرادته، بل حتّى تتحقّق إرادة الله تعالى في الكون. وهو ما عبّر عنه ابن عربي بـ«من لا يسأل للاستعجال ولا للإمكان وإنّما يسأل امتثالاً لأمر الله تعالى في قوله:«ادعوني أستجب لكم»(غافر40,60) فهو العبد المحض».
ولمّا كانت كلّ الظّواهر فانية وزائلة، فإنّ المتصوّف وإن تعامل معها، بحكم وجوده على قيد الحياة، يحاول أن يتذكّر دوما أنّ الله تعالى هو الموجود الحقّ. وبذلك يكون المتصوّف في الحضرة الإلهيّة دوما. وفي هذا المقام يمكن أن نفهم معنى الذّكر بصفته استذكاراً للحقّ في كلّ لحظة وآن، ويمكن أن نفهم أيضا عبارة الحلاّج الشّهيرة: «ما في الجبّة إلاّ الله». إنّ الحلاّج لا يعني أن الإنسان تحوّل إلى إله، ولكنّه يعني أنّ الأنا البشريّة لم يعد لها من وجود مستقلّ عن خالقها.
تقاطع
إنّ التّصوّف بصفته طريقاً روحانياً يقوم على التّوحيد الجوهريّ يتقاطع مع كثير من التّقاليد الرّوحانيّة القديمة والحديثة شأن التّاويّة (le taoisme) والأدفيتافيدانتا (l’advaita védanta)، كما أنّ للدّيانات الكتابيّة الأخرى فروعها الباطنيّة، فنجد ضرباً من العرفان الصّوفيّ الباطنيّ يُعرف بالميستيسيزم(le ysticisme) لدى المسيحيّين وبالقبالا (la kabbale) لدى اليهود.
ولكلّ من هذه التّقاليد الرّوحانيّة أساليب وطرق تبلغ بها الحقيقة. وكذا الشّأن بالنّسبة إلى المتصوّفة المسلمين الّذين يعمد أغلبهم إلى طريق تدريجيّة نحو المعرفة يكون فيها طالب المعرفة في البدء مريداً يتلقّى المعرفة على يد شيخ، ويترقّى المراتب والمقامات أو الأحوال إلى آخر درجات السّلّم العرفانيّة.
على أنّ تجربة التّصوّف تظلّ أيضا مفتوحة لكلّ من أراد أن يغوص في كتب الرّوحانيّات الإسلاميّة القديمة والحديثة شوقاً إلى الله تعالى. ومن جهة أخرى، فإنّ الفكر الصّوفيّ الّذي يقدّم أجوبة فلسفيّة عميقة حول الوجو،د ومعناه يمكن أن يكون من السّبل الّتي تعيد الاعتبار إلى قراءة أخرى للإسلام تمّ تهميشها عبر التّاريخ.
لقد كتبتُ مرّات كثيرة أنّ من مشاكل المسلمين اليوم أنّ الفقهاء انتصروا على المتصوّفة من حيث التّأثير في المخيال الجماعيّ للمسلمين. وبذلك طغت الأبعاد الشّكليّة الشّعائريّة للدّين على أبعاده الرّوحانيّة العميقة. وإنّي أعتقد أنّ الانفتاح على الفكر الصّوفي يمكن أن يكون منطلقا لإعادة الاعتبار لعنصرين جوهريّين من الإسلام هما قبول الآخر من جهة وتحقيق الإطيقا من جهة أخرى. ذلك أنّ المتصوّف، كما أسلفنا، يقبل عالم الأشكال الظّاهر في اختلافه بوصفه من إرادة الله تعالى في الكون. ومن هذا المنظور نفهم قول ابن عربي في ترجمان الأشواق:
«لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت
ركائبه فالحبّ ديني وإيماني»
إنّ هذا القبول للآخر صنو التّسامح والتّعايش وهو ما يفتقر إليه التّمثّل الشّائع للإسلام في ظلّ الإرهاب ورفض الآخر.
ومن جهة أخرى، فإنّ التّصوّف باعتباره مرورا من القشر إلى اللّبّ، يمكّن المسلم من تجاوز البعد الشّعائريّ، على أهمّيته، لينفذ إلى البعد الأخلاقيّ العميق، فيكون تجسيماً لحديث الرّسول عليه الصّلاة والسّلام: «إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». والإسلام اليوم في أشدّ الحاجة إلى استرجاع هذا البعد الإطيقيّ العميق في زمن أصبح فيه التّديّن أقرب إلى الممارسات الشّكليّة في غياب لجوهر المحبّة والخير والسّلام وسائر القيم الإنسانيّة.
لقد أسلفنا أنّ الفقه قد انتصر على التّصوّف في تاريخ المسلمين، ونتج عن ذلك عصور الانحطاط، وإغلاق باب الاجتهاد وضمور الأخلاق، وصولاً إلى التّخلّف الحضاريّ والتّكنولوجيّ والإٍرهاب باسم الإسلام، فهلاّ أعدنا الاعتبار للبعد الصّوفيّ عساه يكون أحد سبل تحقيق الأبعاد الرّوحانيّة العميقة للإسلام؟
تجربة روحية خاصة
التّصوّف هو طريق روحانيّة، قوامها التّجربة الخاصّة ترى ألا موجود في الحقّ إلاّ الله تعالى، وأنّ سائر الموجودات أي العالم الظّاهر ليس لها وجود في ذاتها، وإنّما هي مفتقرة إلى الحقّ في وجودها. والمقصود بالافتقار الحاجة إلى الآخر، فكلّ موجود في الحياة الدّنيا هو في علاقة مع غيره، ولا وجود له في ذاته. بعبارة أخرى، الله تعالى هو الوجود الحقّ وهو الباطن، والعالم بما فيه ومن فيه يمثّل عالم الأشكال الظّاهر. على أنّ هذا العالم الظّاهر ليس مستقلاّ عن الحقّ إذ لا يمكن أن يوجد دونه.
التصوف والشريعة
التّصوّف طريق متميّز مخصوص يُعرف بطريق الحقيقة متميّزاً عن الفقه الذي هو طريق الشّريعة. ولا يعني هذا أنّ الطّريقين متقابلان لكن يعني أنّهما يشيران إلى بعدين مختلفين من أبعاد الحياة. فالفقه يهتمّ باستنباط الأحكام القانونيّة الّتي تمكّن البشر من التّعايش، والبعد القانوني هو أسّ الشّريعة. أمّا التّصوّف فطريق روحانيّ يقدّم رؤية وجوديّة عميقة للعالم. ولا يعني هذا أنّ التّصوّف عرفان فحسب وإنّما هو يتجسّم أيضاً في السّلوك. على أنّ سلوك المتصوّف لا يكون نتيجة للالتزام بالقانون الخارجيّ فحسب، وإنّما يكون نتيجة لرؤيته العميقة للوجود.