ثنائية البندقية والنّاي

خاص- ثقافات

* حلا السويدات

 

يا لحظّ الثورة الآن، الكلّ على أهبة..

    أي أهبة هذه، وشتلة مائلة في رأس كل واحد من الحضور، وغبار كثير، إنها الثورة وإنهم الثوّار، كيف يمكن لثائر التلصص على هذه الرفعة الأخّاذة، التي لا أرض ولا سماء فيها..

إنّها المعزوفة 106 لبيتهوفن .. (يقول شخصٌ في منتصف الاستعارة):

   عندما تحضر الموسيقا.. تكون الاستعارة.. ويكون القلب في تلك اللحظة استيطيقيًا؛ يتجلى بالرقص وبالألوان وبضروب الشعر، فلا ينفصل الراقص عن الوتر، ولا الوتر عن مدى الصوت، ولا الصّوت عن بحّة الانتشاء، ولا أنفصل أنا عن أذني بطبيعة الحال!

وأذن الفلسطينيّ تتربى على وقع الرّصاص أكثر من أي شيء آخر.. وكذا أذن السوريّ صارت، واليمني، والمصري.. وصار الكلانشكوف نايًا نعرف أنّ في ثقوبه تكمن مفاصل الحياة، والكرامة، والوجود، وأنّ منها يسيل الدم لا ينقطع، كأنه شلالٌ من جلنار على مسرح قومي.. يصرّ الجماليُّ أنّ دم الثورة وردًا وعطرًا.. ونحن في السّردِ لا نعترض، بل نمتزِجُ أكثر ببيتهوفن!

***

   في المكان ذاته الذي يتصارع فيه الصوتان، ويحاولان فيه أن يثبتا الضرورة المعيارية لقيام جمال جديد، يقوم على الحركة الأمامية والتكاتف والتشارك والحجارة والنواح وذاكرة الأمهات أكثر من أوتار ونفخيات وامتزاج الألوان، وضروب من الخيال تتفتق السماء فيها، بل وتنقلب الأرض ماءً لا يسقي غير كأس الهائم، والذاهب في سكون الأشياء فيه، يقوّم الكلّ شتلته إذ تميل على عينيه، ليرى بوضوح، رجلا يعزف بإبداع.. ولأنّ هذا هو تحديدا هو وقت الإمعان.. نتوقف عن الحركة.

   هل سبق أن أمعنَ ثائرٌ، وشُلّْت حركته بهذه الطريقة لتحيط به معزوفة خيالية لعازف خيالي فريد؟ حدث هذا بغضون هجوم أجبر الثوري على الغوص في النهر كي يتدارك إصابة الأعداء ويغوص أكثر ويسويّ وجه النهر من ورائه، من لم تكن بوصلته غير الرصاص يفتعل الضجيج حتّى بالماء، لكن الثوريّ يدرك الجمال أكثر من أي شخص آخر، ويقاتل ليكون غيره هادئًا منيعًا ضد الأسى، كي يبكي الطفل من النّعاس لا من رؤية ضلع أخيه وأمعاء أبيه، وكي يحميه من عثرات الحمقى فوق الجثث الكثيرة.

  والكورس ما الكورس إذا ما شئتَ تخييل الحروب وحفلات العزف ومعارض الرسم وأرض مقتل الحلاج، ما هيولاه إذ تبحث عن جدار التكوين في بؤس اللا منتهى، والتذمر على حافة الأرض، ما صورته لمّا تجد الشتات بالغٌ حدّه في البلاد، والمعازف صارت ثقيلة على الجماليين؟

  ***

   يعاني الثوريّ من بطْء في التخييل على غرار الموسيقي مثلاً، وانزعاج من تلك الطاقات والأزمنة المهدرة في محاولات للصفاء غير المجدي، الرصاص سريع، ويعرف أين يثبت، عليه أن يعرف اللحظة المناسبة لرمي رصاصته، هذه الثنائيّة المطاطية من السّرعة والترويّ، لا تستحمل أفعال بطيئة خالصة ومتناهية في الصمت، مثل الكتابة، والعزف.

لطالما قيل الكثير إنّ الفنّ ثورة، وليس اختزالا لقيمة الفن ألا نأخذ بهذا الآن، عندما تحدث أرنست فيشر عن الأمر في كتابه ضرورة الفن لم يجز في حين أن السرعة والعنف ووتيرة الفن لا تروق  في الحديث عنهما معا، كيف نجرؤ في عصرنا هذا أن تستقيم ذواتنا بهما معا، الفاعل الثاني / الموسيقي، بثياب الأوّل/ الثائر.

*لا بدّ للاستماع إلى ” ثورة وأمل”، لمؤلفه نصير شمّة، وهو عن طفل محتل يواجه دبابة العدوّ المحتلّ إبّان الانتفاضة الأولى.

___________

كاتبة من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *