حكايات صوفية.. الببغاء الصامت الأقرع وسؤال الحرية

  • د. هالة أحمد فؤاد

الببغاء الصامت الأقرع وسؤال الحرية «حكاية من المثنوى»

يحكى أن أحد البقالين كان لديه ببغاء حسن الصوت، أخضر اللون فصيح، وكان هذا الببغاء مقيما فى حانوت البقال حارسا له، وكان يفاكه كل التجار، فجمع بين كونه حاذقا فى الغناء، وناطقا بارعا بلغة الآدميين. وذات مرة كان السيد البقال قد ذهب لمنزله، وكان الببغاء يحرس الحانوت، وقفز قط فجأة فى الحانوت فى أثر فأر، والببغاء خوفا على روحه قفز وهرب من صدر الحانوت يبحث عن ملجأ ما، فأراق زجاجات ماء الورد. وأتى سيده من الدار إلى الحانوت، وكعادة التجار جلس مطمئنا فارغ البال امام الحانوت، وكأنه من السادة. لكنه رأى الحانوت مليئا بالزيت والبقع، فضرب الببغاء على رأسه ضربا مبرحا حتى أصيب بالقراع.

حينئذ امتنع الببغاء عن الكلام ثلاثة أيام، وتأوه البقال ندما، وأخذ يقتلع لحيته ويقول: واسفاه، ان شمس نعمتى قد غطاها السحاب. ليت يدى قطعت، كيف ضربت حلو اللسان على رأسه؟ ثم أخذ البقال يقدم الصدقات لكل الدراويش، حتى يدعوا لطائره ان يعود إلى النطق، يبدى لذلك الطائر كل ما يخفيه من العجائب والغرائب، عله ينسى الإساءة ويبتهج، فيغنى ثانية، ويتكلم مجددا.

وفجأة مر درويش عارى الرأس، حليقا وكأن رأسه ظهر طاس، حينئذ بدأ الببغاء فى النطق، وكأحد العقلاء صاح بالدرويش، لاى سبب سلكت أيها الأقرع بين القرع، تراك سكبت الزيت من الزجاجة؟ حينئذ ضحك الخلق من قياسه، فقد ظن الببغاء الدرويش مثله!!

لكن راوى الحكاية يحذرنا، وعبر مرايا المباغتة، قائلا احذر يا صديقى لا تقس أمور الأطهار على أمورك، فلهذا ضل الخلق كثيرا، فتوهموا انهم يستوون مع الأنبياء، وظنوا الأولياء من أمثالهم!!

من الجائز ان تكون صورة هذا وذاك واحدة، فالماء العذب والماء الملح كلاهما يتميزان بالصفاء. ولا يميز بينهما إلا صاحب ذوق… ومن ذا الذى يبين كيفية أمر لا كيفية له إلا الحيرة… ذلك أن الصياد يطلق صفيرا كصفير الطائر، حتى يخدع الطائر ذلك الآخذ للطيور… ومن هنا كان الصحابة يطلبون من الرسول أن يبين لهم مكر النفس التى هى كالغول… فيا أيتها الروح هناك مئات الآلاف من الشباك والحبوب ونحن كالطيور الجائعة الحريصة، ولحظة بعد اخرى نسقط فى شباك جديدة، وانت يا الله تنقذنا فى كل لحظة، ثم نمضى ثانية نحو الشباك ولا نفتأ نختزن القمح، ولا نلبث أن نفقده، ولا نفكر ان هذا من مكر الفأر وشره… كأن لصا كامنا فى الظلمة.. وفى الليل لا خبر للسلاطين عن الدولة!!

حكاية محيرة تثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من الإجابات، ولعلها تسعى لنقض ما نتصوره بديهيا واضحا، فتكشف لنا زيف الانضباط المنطقى، وأوهام اليقين العقلى!! وقد تباغتنا الحكاية بما لا نتوقعه إذ تنطوى رحلة الوعى الذاتى على نقيضها الفادح المؤسى، وتنتهك فى ذروة تحققها كاشفة عن عبثيتها وطابعها الساخر المرير!! وحيث تقودنا لعبة الحكى، ومراوغات الخيال اللعوب إلى ممالك السحر والمعجزات، تلقى بنا فيما وراء حدود الوعى وثنائياته المقيدة!! إنه المكر الفاتن والإغواء الذى يستلبنا خارج عوالم اليقظة الزائفة ليلقى بنا فى فضاءات الحيرة لعلنا نتجاوزالظلال لنعانق الأصل، فنكتشف أنه ابدا لم يكن سوانا، الببغاء حارس الحانوت من ظن التاجر البقال أنه سيده المطلق المطاع فجلس مطمئنا فارغ البال أمام فضائه الآمن مستمتعا بأوهام السيادة الزائفة جاهلا لم يزل بما أتلفه الحارس فى لحظة غيابه عن الفضاء المخايل!! فخ لا ندرى من نصبه للتاجر، صاحب السطوة والمال والنفوذ المهيمن والخيلاء الرفيع، هل هو الببغاء نسج الشبكة المحكمة لاصطياد السيد، فأعاد إنتاج القمع وسعى لقلب التراتب؟ وكأن الضحية تغوى صائدها، وتقتنصه فى نفس الفخ الذى سعى لاقتناصها داخله!! انه سعى لا يمارس إلا فى الفضاء الليلى، وحيث تكمن الضحية متربصة بقامعها، ناقضة نسيجه المحكم الذى توهم حين نسجه فى الصباح انه لا ينتهك أبدا، لكنه الليل يطوى مساحات الخفاء والانفلات الخطرة فيما وراء مباهج النور المخايلة، والتى قد تصيب بالعمى حين نحدق فيها فرحين بأمان الوضوح والبديهيات الكاذبة!!

كان الببغاء جميلا، اخضر اللون كربيع ناثرا على الدنيا أريج عطره ضاحكا مفاكها، حاذقا فى الغناء، فصيحا بارعا فى لغة البشر!! كيف لا ينتشى مالك الببغاء، لكن التاجر، منشغل بالحانوت، مملوكه السيد الذى اصبح عبدا له بعد أن كان مالكه، جوهره الفعلى ومرآة وجوده المستلب، ووعيه المغيب!! ولعله لم يع الجمال المشرق القار بين يديه، وربما يكون اختزله في محض الضرورة والفائدة المرتجاة منه. فالببغاء يحرس الحانوت، ويجتذب الزائرين والزبائن والتجار بخصاله الفريدة من خلال المفاكهة والغناء والفصاحة!! أدوات وإمكانات لا يستهان بها فى لعبة الهيمنة والسطوة والاجتذاب والاستلاب المراوغ الخفى الناعم للآخرين!!

ومن المثير حقا، أن التاجر قد لا يكون انتبه لهذا كله بقدر ما كان يعنيه عدم المساس بسلامة الحانوت، وما فيه من بضائع هى أثمن عنده وأجدر بالاهتمام من جمال الببغاء وفرادته!! وهكذا، فحين تحرك الببغاء حركته المباغتة داخل الحانوت تحت وطأة الخوف من القط الذى كان يطارد الفأر، وأراق زجاجات ماء ورد، وأفسد البضائع بالزيت والبقع، أصبح العقاب ضرورة لا مفر منها!! ولعله التمرد عالى الصوت يباغت السلطة، وما كان لها أن تغض البصر، فقد أصبح التحدى واضحا، وتم الإضرار بالمصالح والممتلكات!! لا كرامة لعبد ممتلك عند سيده إن لم يحقق الفائدة المرجوة منه، ولو كان جميلا فريدا!!

يقول إخوان الصفاء فى رسالة الحيوان الرمزية على لسان الببغاء:

ولعل حركة الببغاء المراوغة لم تكن خوفا من القط الذى كان يطارد الفأر، لكنها كانت لحظة المواجهة الحقة بين الببغاء الناطق الجميل وذاته، حيث اكتشف تلك القوى المتصارعة داخله عبر فضاءات المكر والجبن والمراوغة، والتى دفعته إلى أن يكون حضورا استعراضيا زائفا، يبهج الناس بالتقليد والتكرار للبشر، فى كلامهم وغنائهم، وكأنه يندرج فى فضاءات التدجين والنمطية وفقا لمعايير العبيد الذين تركوا قيادتهم للسادة الأحرار، ووقفوا يفعلون العجائب ليحصلوا على جوائزهم ومنحهم!! بعبارة أخرى، كانت حركة الببغاء تمردا على ذاته المستعبدة، والدور الذى حبسه داخله البقال صاحب الحانوت، والسيد المطاع!! كان قط الببغاء الماكر الوحشى يطارد فأره الجبان المرتعد، ويحتل مشهد الصدارة في وعيه الغائم لينتبه الببغاء ويتمرد لا على صاحبه القامع فحسب بل على صورته الجمالية الزائفة التى تمنحه ذلك الحضور المتميز الوقتى العدمى!!واجه التاجر فعل الببغاء بالقمع الحاد والقاسى، وليست مسألة الضرب المبرح هى المؤسية وحدها، لكن ما نجم عن الضرب، إذ جرد الببغاء من مظهره الجميل، الشىء الوحيد الذى وهب له من الخالق، ولم يكتسبه أو يتعلمه ولم يمنحه إياه التاجر!!

امتدت يد التاجر العمياء لتنتزع النعمة الإلهية من الببغاء، أو هذا ما يتبدى لنا فى الوهلة الأولى!! وحين فقد الببغاء شعره الأخضر الجميل، امتنع عن الكلام دافعا التاجر الذى أفرط فى العنف استعراضا لسطوته وهيمنته وقهرا لهواجس التمرد عند الببغاء إلى التأوه ندما!! بل أخذ التاجر يقتلع شعر لحيته أسفا على فعلته فى ممارسة موازية لضرب الببغاء على رأسه واصابته بالقراع!! وكأن السلطة، صاحبة اليد الطولى والقدرة العقابية توجه عنفها ضد ذاتها لكن عبر مرايا الببغاء الأقرع الضحية المسالمة المرتعدة!! ولعلها تلك الآفة القارة فى أعماق كل سلطة مستبدة طاغية، إذ تنطوى دوما على إمكانات تدميرها داخلها، حيث ينقلب دوما عنفها المفرط عليها!! إنه العبث الذى يحكم علاقة القامع ليس بالمقموع فحسب، بل بممارسته القمعية ذاتها، والتى تستكن دوما وبالسعى الهستيرى المحموم للنهاية الحتمية، رغم كل محاولات الدفاع المستميتة عن الحضور المهيمن وهوس البقاء الأزلى!! ولعل المباغتة المدهشة هذه تكمن فى أن السلطة القامعة حين تكتمل بذروة التسلط والطغيان انما تكون قد حققت الهدف النهائي المرجو للمقموع، وسارت وفق المسار الذي رسمه لها، وحققت إرادته.

يرمز الشعر أسطوريا وصوفيا فى كثير من الاحيان إلى القوة والمعرفة، وما تحققانه من خيلاء وكبرياء ذاتية، ناهيك عن سطوة الجمال!! وقد يكون امتناع الببغاء عن الكلام ليس محض عقاب للتاجر، لكنه نضوب لمنابع التميز المعرفى والقيمى!! وربما يتحتم علي التاجر السيد أن يلازم ببغاءه، معانيا ليس فقد الفائدة الوظيفية له فحسب، بل فقد الانتشاء بامتلاك التفرد المعرفى والقيمى عبر مرايا الببغاء!! ولعل الخسارة أكثر فداحة مما نتصور، وهى أنه حين يسكت الببغاء، يفقد السيد أحد مباهجه الأثيرة، ففى لعبة الكلام يمارس كل من السيد والعبد الإمكانات المبهجة للعبة المراوغة، مراوغة الحديث فى حضرة القمع، وفى ظلال الهيبة!! إنها المراوغات التى تصوغ الوهج والتوتر ما بين الطرفين، وتحفز كليهما مستنفرة كل الطاقات الذاتية، والتى تذكى فاعلية وحضور كل منهما فى مواجهة الاخر، وتدعم وجوده داخل لعبة التراتب المراوغة بدورها!! وبالطبع تستمتع السلطة بكلام محدثها الذى لا يكف عن تكريسها وتقريظها وتبجيلها ويفرط فى هذا، لكنها تستمتع أكثر بمن يراوغها ويلاعبها لأنه يبرز إمكاناتها وذكاءها الفذ وقدرتها على ممارسة ألعاب ومراوغات الكلام!! وفى كل الحالات، فالمتكلم فى حضرتها خير من الساكت، وأقل خطرا، لأن الكلام رغم كل إمكانات التلاعب مساحة للكشف والتعرية وفضح المضمر، أو هذا ما تتصوره السلطة المستبدة!! وهكذا، فإن امتناع الببغاء عن الكلام هو اقصاء متخيل عنيف لصاحبه أو سيده التاجر، حيث يحرمه مباهج الكلام والغناء معا!! ولعله يحرمه بهجة التقليد والتكرار، فالببغاء مهما بلغ حذقه فى الكلام والغناء لا يعدو كونه مقلدا لما يسمع، وليس كالتقليد أمانا وراحة ونعمة!!

هكذا، يتعرى خواء السلطة وضعفها، بل احتياجها المؤسى لمن تملك، وما تملك، ولا تفقد السلطة كرامة الاستغناء والتعالى أمام الببغاء فحسب، بل أمام الآخرين حتى فقراء الطريق، الدراويش، قاطنى الهامش الاجتماعى!! وحين يتكشف للسلطة وضعها المزرى أمام ذاتها عبر مرايا أضعف رعاياها، وأكثرهم هامشية تفقد صوابها، وتسعى فى كل السبل من أجل قضاء حاجتها!! فهاهو التاجر بعد التأوه والندم والأسف واقتلاع اللحية وتقديم الصدقات للدراويش مستجديا دعواتهم من أجل الببغاء الساكت، يسعى لإبهاج الببغاء وملاعبته آتيا بكل غريب وعجيب عله ينطق ويعود لسابق عهده!! لكن الببغاء ساكتا لم يزل يتحدى التاجر ويستمتع بإذلاله وانتهاك سطوته!!

هنا يحدونا السؤال، هل كان الببغاء جميلا وفريدا حقا؟!

وربما كان السكوت اول رد فعل مباغت للذات إزاء مأزقها الوجودى، انه سعيها اليائس للتحرر من صخب الحضور الخارجى وعلاقاته الملتبسة الزائفة!! ولعل التاجر بضربه الببغاء واصابته بالقراع قد حرره من الغفلة والغياب، ومن سطوة المعرفة الدنيوية العمية، بل من خطيئة الكلام، جرح الوجود وتشظيه!! لقد كان الألم والفقد هما الطريق الوحيد والممكن لاسترداد الذات حضورها الحقيقى، وممارستها الوعى الذاتى الخلاق!! وعبر الآخر الشبيه، الدرويش الأقرع يحاول الببغاء استرداد ذاته المتكلمة الخلاقة، جماله الأصيل!!

لكن شيئا يلوح ناقضا ومدمرا هذه الممارسة فى ذروة تحققها بالاكتمال، انها تلك المفارقة القارة فى عمق الوعى العقلى المقيد دوما بثنائيات التشابه والتناقض، حيث لا يتحقق إلا من خلالها!!

ولعل هذا ما تسعى الحكاية لنقضه، فخ التماثل، حيث لا مماثة على الحقيقة وان تشابهت الصور. إن المغايرة والفرادة، وليس محض التناقض، هما الفضاء الممكن لتأسيس الائتناس الفعلى والحميمية الحقة، بل هما الأصل للتحقق بذروة الحضور الوجودى الخلاق معرفيا وقيميا!! وتنتعش هذه الفرادة بامكانات التنوع اللانهائى والمدهش!! إن استرداد الوعى والوجود والقيمة لا يتحقق إلا إذا تجاوزنا أرض الظلال والمسوخ المقلدة والأشباح إلى الأصول المتنوعة، المتغيرة، المحتفية بالتفرد البرح الذى يغتنى ويأتنس بإمكانات غيره من الأصول الخلاقة!!

وهاهو الرومى يروى لنا حكاية أحد التجار الذى كان يملك ببغاء جميلا، لكنه كان يحبسه فى القفص، فلما أعد التاجر عدته إلى بلاد الهند، سأل الببغاء: أى هدية تريد أن آتيك بها من بلاد الهند؟ فقال الببغاء: هناك توجد ببغاوات، عندما تراها، حدثها عن أحوالى، وقل لها: إن الببغاء فلان مشتاق لكم، وقد شاء القضاء أن يكون حبيسا عندنا، لقد أرسل إليك السلام، وطلب الغوث، وسألك الوسيلة وطريق الإرشاد. وقال: أيليق أن أكون أنا فى الغل الثقيل، وأنت حينا فوق الخضرة، وحينا فوق الأشجار؟

فى بلاد الهند، موطن إيروتيكا الوجود حيث يلتبس الحسى بالروحى فى جدل شديد التعقيد، ورمزية متعالية يشع وضوحها غموضا ساحرا، ومخيفا فى آن!! هناك، فى فضاءات الطبيعة البرحة الجميلة، يتمتع رفاق الببغاء الأسير بمرح الحرية المطلقة فى فردوس الإله، لاهين عن رفيقهم الحبيس المقيد فى قفص التاجر، السيد الدنيوى!! يعانى الببغاء الأسير شوق الفراق والألم الروحى، وقسوة الأسر المادى، وهاهو يستغيث بالرفاق، مشتهى الروح، كانهم ليلاه المعشوقة، وهو المجنون العاشق المدله لا يملك إلا طيف المعشوقة، وسحر الخيال الجموح!! يُحمل الببغاء، العبد الأسير، سيده المالك رسالته للرفاق، وقد أوهم الجميع أنه يروم تحقق الوصال، لكنه كان قد حسم أمره، وآثرالفراق، فحمل الرسالة لسيد مملوك لا يعى قدر عبوديته الدنيوية، ولا يفقه لغة ببغاء الروح، ولا يرى منه سوى جماله الظاهرى الأسير حبيس القفص الذهبى!!

لكن الببغاء الجميل الحبيس قد وعى فى لحظة كشف مباغتة جمال الأسر رغم شكواه للرفاق، واستغاثته بهم لنيل حريته، ورأب صدع الفراق كى ما تلتئم جراح الاشتياق، ويتوحد العاشق بمعشوقه الحر المتأبى على الامتلاك!! ولعل الببغاء أدرك لحظة رحيل السيد إلى حيث الرفاق، خان الروح، أنه ينبغى عليه أن يسعى فى رحلة نأى موازية، مرتدا إلى عمق ذاته باحثا عن أصله الوجودى، مقتنصا حضوره وحريته من فضاء الرفاق الذى هم صور مجلية لجمال الأصل وحريته المطلقة، لكنها مجرد صور فى أرض الظلال، حيث الالتباس لم يزل قائما بين الروح والجسد!! ومن ثم، فقد آثر الببغاء مقام الصبر الذى هو شهوة الأذكياء، بينما ذوق الحلوى (حلوى اللقاء وشهد المتحقق ولذة الوصال) هو شهوة الأطفال، وكل من يصبر يرتقى الأفلاك، وكل من يكتفى بأكل الحلوى، يمضى متقهقرا!! ومن المثير للانتباه حقا فى هذا السياق، هو أن يفضل الببغاء بقاءه فى فضاءات الهجر والتخلى، وجور المعشوق على أن يذوق لذة الكرم واللطف والجود، ومنحة القرب الدافئ الحميم!!

هاهو الببغاء العاشق، مرة أخرى، يسعى لفرادة الحضور، ولو كان ثمن هذه الفرادة، هجر المعشوق وجفاءه وقهره وانتقامه!! ولعلها فرادة العاشق المهجور المثابر دؤوبا فى مشقه، لا ينتظر ثمنا لهذا العشق سوى نثر الروح، وتقديمها قربانا على مذبح المعشوق الخالد!!

وربما كان هذا هو مطلب ببغاء الروح، الخلود الحقيقى، الذى لا يُقتنص من الفرع، بل تعايش الروح خلود الأصل، فتسكن فى عمق الغياب، وقد انمحى حضورها أمام الجبروت والقهر الإلهى، لكن فرادة سعيها، ومغامرتها الجريئة، وتطاولها الفادح يجعلها محل النظرة الإلهية الصاعقة!!

يقول الرومى:

«يا من أعدمكم الفناء، عودوا من العدم على نداء الحبيب».

نص المثنوى: جلال الدين الرومي
_________

*جريدة القاهرة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *