وهَا أَنْتَ اليَومُ ، وبعْدَ تِلْكَ الأَيامِ تشْهَدُ على مرْأَى مِنْ الذِكْرى ، أَنَّ قِيَمَنا التي ترعْرعْنَا على بِساطِها أَخذتْ تأَفْلُ ، وتنْزاحُ أَصْباحُها وراءَ جيش الظلامِ ، فتفْزعُ من الأَشْباحِ الزاحفةِ كالجرادِ القادمةِ من الصّحاري الكُبْرى في زمنٍ تأَهّلَ جيداً ، لأَنْ يكونَ زمنُ الذبابِ الذي يطُنُّ ويتقاطرُ على العسَلِ فيبْتئسُ الحالُ ، وتضيق بكَ الدُّنيا على إتساعِ مَراحِها ، ثُمَّ لا تلْوى إِلاَّ أَنْ تُدركَ ، أَنَّ الأيْامَ اصْطِهار للمعادنِ الثمينةِ والخسيسةِ ، وينْجلي لكَ في رابعةِ النَّهارِ ، أَنَّ الجَوْهرَ يَجْلُوه اللَّهبُ الأزْرقُ ، وأَنَّ الرِّياحَ العاصفةَ لا تَهزُّ الأوْتادَ الراسِخةَ ، وتَعْرَفُ أَنَّ القِيَمَ التي نحْمِلُها في صُدورِنا لا مَعْنى لها في عُرفِ الأَيامِ إِلاَّ عِنْدَ اليومِ الشديدِ، وهكذا يظْهرُ عليْك ( الحاج رجب ) ، هذا الأشْعث الأغْبر الذي لا ندْري كيْف انْبثقَ مِنْ طِيب الأَرضِ المُرْتفِعةِ ؟ وكيْف يُؤمّنُ مَعاشَه ؟ ومَنْ يُؤنسُ حياتَه ؟ وهلْ له أَبناءُ يُشْبِهونَه في قِوامهِ المستقيمِ، ويرتدُونَ مِثْلَه ذلكَ المعْطفِ الطويلِ الباهتِ اللونِ ؟ وهلْ هو يأكُلُ مثْلمَا نأكُلُ ، ويشْرَبُ مِثْلمَا نَشْربُ ؟ ولماذا يَظْهر أَياماً ويَخْتفِي أَياماً كالقمْر ؟ فَعلى الرُّغمِ مِنْ ضِيقِ الحَالِ وعُسْر ذاتِ اليَدِ ، كان ( الحاج رجب ) مع ذلكَ ، يَرْفضُ قَطْعاً دعوةَ مشاركِتنا خُبْزِنا اليومي برفقٍ سَمْحٍ ، يرْسِلُه في طَيّ ابتسامةٍ عَذْبةٍ تُساوي كُنُوز الدُّنْيا وبِبريق مِنْ عيْنيّهِ الواسِعتين كأَنهُ الشَّهْدُ، ولم نَكنْ نُخَمِّن، ونحْنُ الصّغِارَ في رَدْهَةِ تلْك الأَيْام مَكَانته ، وهو يَصْعَدُ بجهدٍ إلى تلكَ الرابيةِ حيثُ يقْطِنُ في كوخِ مِنْ الصَفيح .
يَطلُّ علينَا منْ علْيَائِه بتلويحةٍ منْ يديهِ النحيلتين وبإشعاعِ تلكِ النَّظْرة بِلون العسَل قبْلَ أنْ يلجَّ داخلَ صوْمعتهِ الفريدةِ ، لم نكنْ نُقَدّرُ وقتَها سِرَّ تلكَ الهيْبةِ التي تلْحَقهُ ، وذلكَ التقديرِ المشوبِ بالغموضِ الذي يمْنحه أَيْانا ( الحاج رجب ) ، رُبَّما لأنَّنا نحِسُّ بالأمانِ أَكْثر ، عنْدما نراه في أَثناءِ جَلبة أصواتِنا في وطيس اللّعِبِ ، تسْري في عُروقِنا حرارةُ حسِّ الجماعةِ في الّلعبِ ، ونكونُ في كنْفِ اللّعْبةِ إلى حدِّ غِياب ما حولُنا ، إلا مِنْ اطمئنان نُفوسنا إلى وجودِ ( الحاج رجب ) داخل صوْمعتِه ، إما يُعالج قلمَاً ليبدأَ مشوار الكتابةِ على ذُبالةِ شمْعةٍ أو يتمعنُ على ضوئها الشحيحِ حروفاً تتراقصُ على صفْحةِ كتابٍ ، وفي كلتيّ الحالتين نكونُ نحنُ الصّغارَ في معْمعْة اللعْبةِ ، فلا يجرؤ أحدٌ مِن القاطنينَ في الجِوار أنْ يفْسدها علينَا تحْتَ أدْنى حُجةٍ ، وما أكثرُها في تلك الأَيامِ ، وكُنّا نتعجب ـ دائَماً – من سِرّ هذه الهيْبة التي تلحق ( الحاج رجب ) أَثناء وجودِه في كوخِه المُعلّق فوقَ الرابيةِ ، وعدْم جُرأة هؤلاءِ الذين يؤذيهم أَنْ يلْعبَ الصبيةُ في الأَرْضِ المنخفضةِ ، حتّى عَرفنا ذاتَ يومٍ أنَّ الأرْضَ العاليةُ حيْثُ ينتصبُ كوخُه ، وكذلكَ الأَرْضُ المنخفضةِ حيثُ يلْعِبُ الصبيةُ ، تعودان مِلكيّتهما مِلكاً مقدساً له ، دونهما الموتُ .
…. حطتْ هذه الحقيقةِ بجناحيها فوق الأرض المنْخفضةِ ، في يومٍ عاصفٍ مِن الأَيامِ الشديدة ، ونحن في لُجّةِ الّلعِبِ ، جاءَت إليه كتيبةُ من الدرْك الإيطالي مُدجّجةً بالسّلاحِ ،على رأَسِها مأمور البلديّة ، يُطالبه بإزالة الكوخ فوراً ، وإِخْلاءِ الأرْض في الحَال ، حينَها توقْفَ الّلعِبُ …. وإِذا كُنَّا نَنْسى فلا يُمكنُ أَنْ ننسَ ذلكَ اليومِ ، كيْف وقفَ ( الحاج رجب ) بثقةِ الجِبَال الراسخةِ أو كقاضٍ في محْكمةٍ عُليا ، يرْطن لهم بلغةٍ غير لُغَتنا ، ويبْتسم لنا في مودةٍ ورفقٍ ، ونحنُ واقفين جامدين بجانبِه بُلهاءِ حينَ لا نفْهم شيئاً ، وفرحين حينَ نفهمُ كِلمةً أو جُملةً تامةَ ، فيحادثُهم بأنَّ الأَرْضَ هي مُلْكه الخاصُّ المُقدسُ ، ولا تسْمح كلُّ شرائعِ هذه الدُّنيا بالاعتداءِ عليّها ، ولَهُ كافْةُ المسوَّغاتِ القانونية التي تثْبُتُ ملكيتَه للأرْضِ ، ولا يسْمح لمَنْ كان المسَاس بِها إلا بإِذنِه ، وأنَّه لا يأذنُ لأحدٍ مَنْ كانَ باستغلالِها ، فَهِي أَرْضُه ودونُها الموتِ ، ولمْ نَكُن نعْلم حتّى هذه الّلحظةِ السرَّ الذي يقفُ وراءَ قوة كلماتِه ، وجَعَلهم ينْكِصون على أعْقابِهم ، على الرُّغم من النيَّة العدوانيةِ المُبيّتة ، وشوكةِ السّلاح في أيديِهم ، وتظاهرهم بقوةِ الدولةِ ، ولكنّنَا كُنَّا نعْلم بأنَّ كلمة ( الحاج ) لا تنْزلُ للأرض ، ولا تتنازلُ عن الأرضِ ، لأنّها كلمةُ متزنةُ جداً ، ومدروسة جداً من جميع الجِهاتِ ، وإذا أنْطقها فهي ليستْ خُلَّبٍ ، وقد أثبتتْ الأيامُ أنّها حافظتْ على الأرْضِ حتى كتابة هذه السُّطورِ، فقد أُقيمت المباني ورُفعت الأبراج من حولِها ، وبقيت الأَرضُ المرْتفِعَةِ والأَرضُ المنخفضةِ شاهداً على أَنّ الأرْضَ هي ( الحاج رجب ) ، ولم تُقتل أبداً في حياتِه أو تُصادر ، وقدْ جَعلها رسْميا قُبيل مماتِه بقليل مُلكاً مُشاعاً لأطفالِ الحيّ ، ومكاناً لنزْهتهم والعابِهم يقْصِدونه ، وصارتْ بعدَ وفاتِه حديقةٌ غنّاءة بالزّهْر والطيبِ ، ودوْحةٌ زاهرة لشهداءِ المِنْشيةِ ، ولمْ يُذكر أَنَّه أوصى بوضعِ نصبٍ أو شاهدٍ عنْدَ مدْخلِها يرْفَعُ اسْمَه ، ومُلكيّته الخاصّة ، ولكن بقى اسْمه وقداسة ملكيته محفورةً في لوْح الممتازين ، وفي مكانٍ من ذاكرةِ جيل ، تعلّم من ( الحاج رجب ) ما لم يكُنْ قدْ تَعَلّمَه في الجامعاتِ .