فإذا كان الصوفي يعد المحبة في الوسط بين بداية السلوك ونهاية الحضور حيث التجلي النوراني للمعبود في العابد وللعابد في المعبود، فإن فهرسة النصوص في “همسات الروح والخاطر” من خلال فقرات جامعة تبدو انعكاسا للسلّم الصوفي.
فـ “بداية أشواقي”(ص24) التي تضم عشرة نصوص، تصير معادلا نصيا للممارسة الأولى حيث الحضور مع العبادة، وهي أولى المراتب. ترتقي لتصير ما يشبه “شوقا حارقا”(40) التي تضم سبعة نصوص ولأنها لا تتجاوز المرتبة السابقة إلا بالتزام فعلي للممارسة فإنها أولية أيضا، ولأنها كذلك فإن العثرة تتبعها في السهو والخشوع غير المكتمل والتيه الذي تقابله في المجموعة “خيبة” (ص54) ، مما يلزم معه النوافل للإصلاح وللتقرب في “زمن قصير” (ص60) التي تضم خمسة نصوص.
وكما في الحديث الشهير حيث ما يزال العبد يتقرب بالنوافل حتى يُحبه الله، فإن التعبد يتشكّل بتذوق جديد في “بوتقة المعنى” (ص74) حيث ستة نصوص تفضي فيها المحبة إلى “التجليات” (ص84) التي لا تعني غير غاية العابد حين يصير المعبود سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به في الحضرة وفي الغياب:
حين كنتُ في خلوتي
تفتّح كل شيء قبالتي
بومضة نور
نثرتْ فيَّ أسرارها (ص93)
ويستطيع القارئ تلمّس انتقال الضمائر من المخاطَب (ة) في مجموعتيْ “بداية أشواقي” وفي “شوق حارق” ، ليتحول في “الخيبة”، وضمير المخاطَب يستضمر انفصال الذاوات حتما، غير أنه انفصال متصل بالحضور وجودا أو في الذهن لحظة التواصل والإبلاغ، ليتحول الضمير بعد ذلك إلى الغياب في مجموعة “خيبة”، حيث ضمير الــ “هي” يمثل نفيا للحضور. في حين أننا سنجد في مجموعة “زمن قصير” خليطا من الـ “أنا” والـ “نحن” و الـ “هو”، وهي مراجعة للمواقع جميعها: مقام الحضرة بالمفرد والجمع ومقام الغياب.
وكاختيار، بعد التوقف الذي تعادله نصوص “زمن قصير” ، سيصير ضمير الــ “نحن” في دائرة الاهتمام من حيث تكراره في نصوص لاحقة. وهو اختيار سيحقق توازنا في دلالة ورمز العشق الصوفي من جهة، وسيتجلى الصحو فيه من خلال الاشتغال اللغوي والجمالي المتميز مقارنة مع النصوص السابقة من جهة ثانية.
وفي هذه المحطة التي فهرسها الكاتب تحت الــ “تجليات”، سيتشكّل خط التقاطعات مع ذوات أخرى، ليست محصورة في ذات المحبوب فقط، ولكنها تنسحب على ما يقتطعه الكاتب من أزمنة وأمكنة أخرى فيما يشبه طي الزمان وطي المكان، ويمثل “التناص” إحدى اشتغالاتهما.
ولعل الانتقال بين النصوص والتجارب والشخصيات والأماكن والثقافات منح النصوص في الأغلب كثافة وتنويعا دلاليا وجمالا، كما في المقطع:
“تقدّستْ ذاتُكِ فتلا القلبُ
وردا بعد وردٍ، وما سَها
مُنحتُ متعة الصعود
نعمتُ الرؤيةَ على معراج مهتدى” (ص85)
وهو تصادٍ جميل متفاعل مع سورة النجم حيث سردها للمعراج، وحيث بناء خواتم الآيات وإيقاعها. فيما ظلّ الاشتغال على التناص الاجتراري شاحبا في خلق دلالة مغايرة وفي التحقق الجمالي. ويمثل نص “مقام الرؤيا والمخاطبة” نموذجا لم يمثّل فيه النص الغائب (سورة طه) غير قالب منزوع السياق يبادل فيه الكاتب ذاتا بذات:
“سمعت صوتا هاتفا ينادي:
يا رشيد اخلع حيرتكْ
إنك بوادي التلقي،
فأوجستُ خيفة.. ارتجفت.
قال لا تخف، أنا صوت القصيد (…) (ص87).
وإذا كان التناص في المجموعة لا يخلو منه أي نص بالكاد، فإن الاستقاء من الحقل الديني (القرآن، الحديث، التصوف..) يظل مهيمنا إلى جانب الأسطورة (الفينق)، والتاريخ (قيس وليلى) والشعر (نصوص نزار قباني وعمر الخيام، وابن عربي)… وغيرها.
إن الداخل إلى “همسات الروح والخاطر” يلج ما يشبه سلماً للارتقاء من بداية أشواق أولى إلى النور الأكبر، والتجلي في الصحو، متنقلا من مقام إلى آخر بإصرار إيقاعي واضح، وبتفاعل نصي مع منجزات سابقة، تتجاوز المستوى الغنائي الفردي إلى التقاطع مع العالَم فيما يشبه رؤية “الكل” في الواحد، واختزال العالم في “حبة” ليست في نهاية المطاف غير حبة القلب.