خاص- ثقافات
محيي الدين كانون*
ناولنّي سِيجارةً ، وجلسَ على حَافّةِ مَجْرى الماءِ . كانَ الصّمْتُ مطلقا وَ مُريباً في الواحة المنْسيّة إلاّ مِن صُدَّاح الطَّيْر حولَ شجْرةِ تين هَرِمةٍ ، الغروبُ بدأ يزْحَفُ لا يعْبأ بالأحياء ناولني كُوبَ شايِ ثقيلٍ للمرّة الثانيةِ . هُنَاك ثُغاءُ مهزومُ يتوالى من الجّهَةِ الشّرقيّةِ تحْتَ قِطْع مِنَ السُّحب الهاربةِ بيْنما يتهَادى قُرْص الشّمس نحْو المَغيب النّهائي ، ثَمَّ عواءُ متصلُ عن بُعدٍ لكلْبٍ واثقٍ يحْمي عرينَة .
سادَ الصّمْتُ بيْننَا بعْدَ أنْ احْتوانَا الفَضاءُ بِرُمّتِه ، حرّكَ الجمْرات بوجّهٍ يتَبدى خَجَلَا في وهْج النّار ، زادَها حَطَبْا فزادتْ اضْطِراما ، وأَخذَ الحَطبُ لتوّه يُطقْطِقُ اشْتِعالُه من جديدٍ ، أومأ بحركةٍ مَنْ يريدُ أن يقْطعَ حبْل الصّمْتِ الزّاحفِ ، ويُبَددُ شبْحَ السّكُوتِ المريبِ ، قُلْتُ : هل تزوّدتَ مِنْ المَاءِ ما يكْفِي لاستئنافِ الرّحْلة في الغَدِ ؟ قال : نعم … ثم أضاف : إن المكانَ الهادئَ يجْعلكَ تُرَتّبُ أفكاركَ في باحةٍ من التناسقِ يُوحي إليكَ بالوضوحِ ، وتبدو مشاغلكَ هُنا منطفئةً مِنْ جمْرتِها العاجلةِ ، مما يسْمح لكَ معاودةَ النّظَرِ فيها من جَميعِ الجِهَاتِ قَبْلَ القرارِ الحاسمِ … قلت : خاصّةً عندما تكونُ الاختياراتُ أمامَك متكافئةً .
زادَ صَخْبُ الطيْر فوْقَ شَجْرةِ التينِ ، وهفّت نِسْمةٌ باردةٌ انسلّت في المفاصلِ ، ثُمّ شعْشعَ اللونُ البرْتقالي وراءَ الأفُقِ يرّسمُ لوْحةَ الأفُولِ بمدادِ الوِداَعِ ، لماذا قَفزتْ مِنْ أمَامي بِعيْنيها الكُحْليتين ، وفَمِها الصغيرِ الذي ينْفرجُ عَنْ سِنْينِ اثنتين تلْمعان كالبَريق الخاطِفِ الأبيضِ وأنا أُودعَّها في حُضْني بحنانِ الأبُوّةِ محاولاً أن ألفتَ انتباهَها إلى والدتِها حتى أتمَكّنَ من الانسحابِ برفق قبْلَ مشهدِ وداعي لها ، هذه الصغيرة المتشبثة بذراعيها حوْلَ عُنْقي وساقيها المتيبستين على خاصرتي. . . هل تعرف معنى الوَدَاع ؟ وأين عَرَفتْهُ ؟
زاد الحَطْبُ اشتعالاً ، وسَكَن الطيْرُ ، واختفت شجرةُ التينِ ، وحلّ الظلامُ بجبروته الطّاغِي ، وعاودنَي السؤالُ من جديدٍ حوْلَ الاختياراتِ المتكافئةِ … قلت له : أتذكر دائما عبارة قالها صديقي : ” عندما تجد أمامك اختيارات متكافئة ، لا تختر ، علق أحكامك وانتظر قليلا سوف ينكشف اختيارك الحاسم ، وستعرف طريقك إليه …. إن قرارك في هذه اللحظة هو الذي يحدد الاتجاه في اللحظة التالية . ” ردّ وهو يُحرّك الجمْرَ من تحت الرَّماد معقباً : ” كثيرا ما تكون اللحظة التالية أثقل من هذه الظلمة عندما يكون قرارك خاطئا …” قلت : ” لا… إن الخطأ الذي يحسب له مكان من الاحتمال سوف ينير الطريق في النهاية ، ويكشف ويعدل الإتجاه ، تلك هي لعبة القراراتِ في زمن صيرورة الأشياء ، وتبْقى كلمةُ القرار هي البوْصلة التي تقود ُ دفةَ السفينة إلى ميناء الاستقرار فهل اختيارنا لهذا الموقع من الرحلة أفسد علينا الاتجاه ، لقد حسبنا اتجاهنا لكن في اللحظة التي نكتشف أنه اختيار خاطئ ، يمكن بحس اللحظة أن نوّلد و نجدد اختيارا مناسبا دون عناء ودون خسارة ، مثلما أن ينبلج نور الصباح من عتمة الظلمة ، تلك هي مسيرة الإنسان العاقل في هذه البرية .”
ضَحِكَ على نحوٍ لمْ أفهم من ضِحْكَتِه أهي سُخْرية من حَديثي أمْ موافقة ؟ خَمَد وهْجُ الجمْراتِ وحلّت الظلمةُ….علّقتُ أحْكامي في مَشجبٍ ، وسَبحْتُ في عينيها الكُحْليّتين وتسألت : هل تعْرف صغيرتي معْنى الوَدَاع الأخير ؟ وأينَ عَرَفتْه ؟ !
_________
* كاتب وأديب من ليبيا .