ليسَ وداعاً للسّلاحِ

خاص – ثقافات
محيي الدين  كانون*

خفّفَ السّرْعةَ عنْدَمَا اقْتَرَبَ مِنْ  البَوابةِ  المواريةِ في العَطْفةِ ، مالَ بالمَقْوِد يَميناً قليلا وهْوَ يُؤَشِّر بالوُقُوفِ… شَعَر باختناق في مجْرَى   القَصَبَةِ  الهوائيةِ ،  تعسّرَ شهيقُه فجأةً واشْتدَّ فِي طَلْبِ الأوكسجين….       حِينَها  كانَ هُنَاكْ نَفرُ  عِنْدَ الناصيةِ المقابلةِ ، ثُلّة من خفَّارةٍ  البّوْابةِ     فيِ زيِّهم  المَدْنِي ، فِيمَا كَانَ  أحَدُهم  يشْهِرُ سِلاحَه  بالوُقُوفِ  ، وكَانَ  يَمشْي مَلَكاً بِطُوله الاهَّابِ شَاكِيّاً سِلاحهُ كالرُّمَحِ الطَّلًيقِ،يَتَرَنّحُ ذَاتَ اليَمينِ و ذَاتَ الشِّمَالِ  باتجاه السّائقِ  مُشيراً  له بِسَبْابةِ اليُسْرَى أنْ يَقِفَ فِي الحَال.

   ازْدادتْ حالْة السائقِ  سُوءاً… وازدادَ طلبه للأُوكسْجِين ، وانْحَنى بَحرْكةٍ مُبَاغتْةٍ سريعةٍ إلى الأسْفل ليلتمسَ شئياً بدُّرج السّيَارةِ   الأمامي ،وَلَكِنْ فجأةً ودُونَ سابِق انْدَار… انْهَال عَليْه الرَّصاصُ من كُلِّ الجِهاتِ ، غَرَقَ المسْكين ُفي برْكَةٍ مِنْ  الدِّمَاءِ  بَعْدَ  طلقاتٍ مَجْنُونةٍ، قويةٍ نافِذةٍ ، اخْتَرَقَتْ الرّصَاصاتُ القفْصَ الصَّدْريّ وعظْمَ الكَتْفِ الأيْسَرِ، تجَاهَل  ـ كَالعَادةِ  ـ  بَاقِي الحِراسة في البوابة صَلْي  القَعْقَعَاتِ  المُدَويّةِ ، رُبَّما ظَنّوهَا لِكثْرةِ ما تَعَوّدوا …. أنَّ صّاحِبَهم المَمْشُوقُ  يعْبَثُ مَعَ العَصَافِير  ، لا يعْلَمُونَ أنّ مَلْك الموْتِ لا يَعْرِفُ المُزَاحَ ، وَأنَّه جَاءَ مُجَنِّحَاً عَلى عَجَلٍ يُلْقِي بِظِلالهِ الثقيلةِ على أفْعَالِ البَشر. أَخْذت العَصَافيرُ  الوَاجفةُ تُغادِرُ المكانَ تِبَاعاً وَعَلى عَجَلٍ ،  فِي حالةٍ من الذُّعرِ الشّدِيدِ ، يعْقُبْهَا  عَواءٌ  نَزْقِ مُتواصِلِ  لكلْبٍ عنيدٍ  في الجِوار .

    تكوَّرَ المغدورُ في كرسيّه كعصفورٍ ذبيحٍ ارتعشتْ أطرافُه عِنْدَ انتفاضةِ الموتِ النهائي في قَفْصِ الدَّمِ والرِّيشِ بين شَظَايا  الزُّجَاجِ المتناثِر وَبُقْعِ الأُرْجُوانِ المُنْتَشِرَةِ. وَقفَ القاتلُ خارجَ السيّارةِ  يتلصّصُ كَشَبْحِ ظِلِّ ثقيل  ، يَرْقَبُ بُرْهةً عَبْرَ ثُقُوبِ الرَّصَاصِ في لوْحِ الزُّجَاجِ المرضْوضِ وَكَأنّه مُرْتَعِبُ مِنْ أنْ يَفْتَحَ عَليْه بَابَ الجَحِيمِ…!! ، سَحَبَ البابَ بقوةٍ على وِسْعِهِ  ، وأخذَ بِسُرْعَةٍ كَالمَحْمُومِ  يَلْتَمِسُ شيئا في أوراقِ  الدُّرِجِ الداخلي  ، يُرِيدُ أنْ  يتحقق على وجْهِ السُّرْعةِ مِنْ هويَّةِ الضَّحيّةِ فلم  يَكُنْ يعنيه شىءُ   آخرُ على الإطلاقِ.

… تمايلتْ الجُثّةُ في وضعيّةِ مترنحةٍ  يساراً  بقميصٍ شبابي مُشَجّرِ وَمُلَطْخِ  بالدَّمِ  ، الرأسُ كَان مُنَكسُاً نحْوَ الأسْفَلِ  ، بينما كانَ الوَجْه شاحباً  لا أثرَ  فيه  لِنُقْطةِ دَّمِ واحدةٍ ،  وبقبضةِ يدّه اليُمْنَى   ” بَخّاخَةُ  الرَّبوْ “،  ما يزالُ المسكينُ ينْزِفُ مِنْ ثُقوب مثخنةٍ في  مِنْطّقَةِ  الصّدَرِ والكتَفَيّن ، مِنْ   بَيْنَ الأوراقِ طالعتْه  بطاقةُ  لشابٍ وسيمِ الطّلْعَةِ ، يَبْتَسِمُ  للْحَيَاةِ، أخَذَ يَتفَحْصُ البِطاقةَ جيدا…أعادَ الفحْصَ مِنْ جَديدِ ، والتحْدِيقَ جيداً للمَرّةِ الثَانيةِ….تَجَمّدَ  الدّمُ

في وجَّههِ  ، واعْترتْه  حُمْرةُ  دكْنَاءُ يكادُ وجهه يشْتَعِلُ  ، مادتْ بهِ الأرضُ مِنْ تَحْتِ قَدَميّهِ ،  شعرَ  بدُّوارِ كُلِّ ما كَانَ  حَوْلَهِ  كَدوّامةٍ  قويةٍ ،  أخذته نحْوَ بُؤرتِها،طَفَقَ يعوي مِثْلَ كَلْبٍ جريحٍ  حاضناً للجُثّةِ بدَمِّها السَّاخن يَصْرَخُ ويسْتَصْرَخُ في  وجّهَ المَوْتِ الشّاحِب ِ… ماذا  فَعَلْتُ…. ؟! ماذا  فَعَلْتُ…. ؟   من البوّابةِ  المقابلةِ علي بُعْدِ أمْتارٍ خَرجَ نفرٌ مُسْرِعينَ نحو السيّارة  وَقدْ أخذتهم سَطْوةَ ذُعرٍ مباغتةً باتّجَاه قَعْقَعَاتِ صَلْي رَصَاص ِ كافرِ ، هَزَّت المكان بشجرهِ وطيرهِ وحجرهِ…  هذه المرّة  كانت رصَاصاتُ مستقرَّها مَكانِ آخرِ، رصَاصات لم تُخْطىء صَدْرَ  وَكَتْفَ صاحِبهم الذي كَانَ يَتَبَخْتَرُ منذ قليل  كالرُّمِحِ الطَّلِيقِ.

_____________

* كاتب وأديب من ليبيا.

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *