راي برادبوري.. حارقو الكتب في درجة 451 فهرنهايت (1)
أغسطس 10, 2016
ترجمة وتقديم لطفية الدليمي
درجة 451 فهرنهايت – وهي درجة حرارة احتراق الكتب – عنوان رواية أحد اشهر كُتّاب الخيال العلمي في أمريكا ( راي برادبوري) .
ظهرت الرواية سنة 1957 وأحدثت ضجة في الأوساط الثقافية لأنها دانت الحقبة المكارثية عندما مارس السيناتور الأميركي إرهابه الفكري في حقبة الخمسينات من القرن العشرين ولاحق المفكرين والكتّاب والفنانين وأحالهم الي المحاكم وسجن الكثيرين منهم بتهمة انتمائهم لليسار ، ومنعت كتب الكثيرين منهم في أمريكا واستخدم هو ومؤسساته عدداً هائلاً من المثقفين كمخبرين وشاة وكاتبي تقارير !!
رواية 451 فهرنهايت من أجمل الأعمال التي تصدت للارهاب الفكري ويعد المشهد الختامي فيها من أروع مشاهد المقاومة الانسانية للقهر والارهاب في مدينة تحرم قراءة الكتب والتعامل بالكلمات المكتوبة ، وأدهشَنا المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو الذي قام باخراج الفيلم بالعنوان ذاته وقدم لنا مشهد الغابة وراء النهر خارج مدينة جمعاً من رجال ونساء وأطفال تحول كل منهم الى (كتاب حي) وقد حفظوا الكتب العظيمة في التراث الانساني عن ظهر قلب ، فنجد رجلاً اسمه (الحرب والسلام) يردد عبارات تولستوي وهذه امرأة حفظت رواية (أنا كارينينا) وهناك آخر حفظ ثلاثية (دروب الحرية) لسارتر، وهذا صبي يافع هو (دافيد كوبرفيلد) وذلك الرجل هو كتاب (الجريمة والعقاب) والآخر هو (البؤساء) ، وعندما يشرف أحد الشيوخ على الموت وهو حافظ أحد كتب العباقرة يقوم بتلقين مضمون الكتاب كلمة كلمة لصبي صغير قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ثم عندما ينجز المهمة يغمض عينيه مطمئناً وقد ضمن وصول الرواية إلى جيل جديد سيأخذها الى المستقبل.
يقدم لنا (برادبوري) تصوره عن نظام ديكتاتوري يصدر قراراً بتحريم الكتب ويحظر التعامل بالكلمات المكتوبة ويعاقب من يمتلك الكتب بالسجن وتحرق كتبه علانية في الساحات العامة ، وتكمن مفارقة النظام الإرهابي الذي يقلب وظائف الأشياء إلى ضدها في تحويله فرقة إطفاء الحرائق إلى فرقة إحراق الكتب التي تسمى فرقة (451 فهرنهايت) . يقول رئيس الفرقة : إننا نريد إشغال الناس بمسابقات الأغاني ونريد حشو أدمغتهم بمعلومات لاقيمة لها حتى يشعروا بأنهم بارعون وراضون عن أنفسهم بينما هم في حقيقة الأمر لايفكرون في شيء ذي قيمة !!
حرق الكتب سمة بارزة من سمات عصور الارهاب وعلامة انحطاط كل عصر ووحشية كل نظام وظلاميته ، وقد تنبأ (راي براد بوري) بما سيؤول اليه مستقبل الفكر الانساني عندما تسقط المعرفة وتهيمن سلطة الجهل ويتحكم التلفزيون ببرامج مسابقاته وألغازه في حياة البشر محولاً الجموع إلى قطعان مدجنة تلتهم برامج المنوعات والأغاني والمسلسلات وتدمن عليها فلا تعود معنية بما يحدث وبما يهدد الإنسان ولا تأبه بأي شأن من شؤون الحياة والمخاطر التي تفترس المجتمع ، واستشرف (براد بوري) مستقبل الإنسانية عندما توقع صعود القهر والتسلط والإرهاب في بعض بلدان عالمنا المعاصر وكيف سيتحول البشر المحرومون من المعرفة والثقافة إلى كائنات تحيا لإشباع غرائزها الاولية وتقاوم البؤس والتعاسة والعجز والأرق بالتهام الحبوب المهدئة والحبوب المنومة والمخدرات ولا ترى الدنيا الا من خلال شاشة التلفزيون التي تتحكم بالأفكار والأنشطة والآمال التي تدور حولها تفاصيل حياة الناس المرتبطة بشهوة الثراء وامتلاك النساء الجميلات والسيارات الفارهة .
في المدينة اللامسماة وفي عصر غير محدد بزمان – وربما هو عصرنا الذي توقعه (برادبوري) – تداهم فرقة (451 فهرنهايت) المنازل التي يبلغ عنها جواسيس النظام المرتعب من وجود الكتب وسيادة العقل ويقوم رجال الفرقة بتحطيم أثاث المنزل والخزائن ويلقون بالكتب التي يعثرون عليها في باحة البيت ويجري حرقها باستخدام قاذفات اللهب لتكون عبرة للآخرين ممن يتجرأون على اقتناء الكتب !! الرجال الذين تدربوا ليكونوا حماة للحياة عن طريق إطفاء الحرائق حولتهم سلطة دولة الإرهاب إلى رجال مدمرين يقومون بإفناء المعرفة الانسانية وتراث الإبداع البشري . يقول مونتاغ أحد رجال الفرقة : الكتب مجرد نفايات تسلب الناس السعادة وتقلق حياتهم وتجعلهم يتمردون على المجتمع لذلك يجب حرقها، ويخبر الفتاة التي يتعرف عليها وهي تسكن في الجوار إن عمله في حرق الكتب ينطوي على كثير من الإثارة والتجديد؛ فمثلاً نحرق اليوم الإثنين ( آرثرميللر) ويوم الثلاثاء (تولستوي) ويوم الأربعاء (ديستويفسكي) وفي يوم آخر (سارتر) و(ماركس) و(نيتشه) !! إنه عمل مسلٍ ومجزٍ ؛ فنحن نعتاش على حرق الكتب مثلما يعتاش الآخرون على مهن أخرى – إنها مهنة مثل كل المهن ، مهمتنا حرق هؤلاء الكتاب دون استثناء ، (وهكذا نحولهم الى رماد) يقول للفتاة التي تسأله بشيء من الفضول :
ــ إذن هل أنت سعيد؟
ـ لاأدري .
ــ هل جربت أن تقرأ أحد الكتب؟
ــ لا.
ــ حاول أن تفعل.
يبدأ (مونتاغ) بسرقة بعض الكتب من تلال الكتب المعدة للحرق وتستيقظ لديه الحياة ، يتنبه العقل والجسد والمشاعر في الوقت الذي تتحول زوجته الى مدمنة مثالية لمسابقات التلفزيون والحبوب المهدئة وتغدو مجرد (روبوت) عديم الوعي والمشاعر وتراقب تحولات زوجها وترتاب في كونه يمتلك الممنوعات. يتفق مونتاغ مع صديقته على اللقاء وراء النهر، ولكن بعد أن يتم مهمته الشاقة التي قرر القيام بها إثر تحوله الى رجل مختلف. في هذا الوقت تدهم الفرقة منزل سيدة مسنّة تملك آلافاً من الكتب ويجري تكديس الكتب ويُشعل عود ثقاب ،،، تصرخ السيدة (لن تحرقوا الكتب بدوني، سأموت مع كتبي) وهكذا تفعل، تضحي بالحياة التي لاتعني لها شيئاً بلا كنوز المعرفة .
يخبر (مونتاغ) صديقته بفكرته التي ستحطم النظام من داخله : سوف يدسّ كتاباً من الممنوعات لدى كل حارق من أعضاء الفرقة ويبلغ عنه لتنهار الفرقة ويتوقف عمل الإرهاب الفكري الذي تؤديه ، لكن زوجته تبلغ عنه قبل أن يقوم بذلك وتحاصره الفرقة وتعثر على المحرمات في منزله فيضطر الى استخدام قاذفة اللهب لمهاجمة أعضاء الفرقة ثم يهرب إلى موعده مع الفتاة حيث يلتقيان مع البشر حافظي الكتب ، وهناك ينهض عالم مدهش من أناس قاوموا إرهاب السلطة ورفضوا الخضوع لخطتها التجهيلية وأقاموا مجتمع الفكر والرواية في الغابة وعاشوا في حذر وخوف على كنوزهم فهم يحملون أثمن أسرار البشرية ونتاج عقولها ومخيلاتها، وتنتهي الرواية عند هذه المأثرة الانسانية الرفيعة : تحوّل البشر إلى حافظين للتراث الانساني رداً على القمع وظلامية النظم السياسية القامعة .
* * * * * * * عقد ( سام ويلر ) المحرر في مجلة ( باريس ريفيو ) الأدبية الفصلية حواراً شاملاً مع الكاتب ( راي باردبوري ) نُشِر في الفصل الربيعي عام 2010 ، ومهّد المحاور لحواره بهذه المقدمة : يقطن راي برادبوري منزلا في ( بالم سبرينغ ) – كاليفورنيا على أطراف صحراء قريبة من قاعدة سلسلة جبال ( سانتا روزا ) ، و المنزل صغير على غير العادة ويحوي مطبخاً مطلياً بمعدن ( الكروم ) الفضي ويغلب على المنزل اللون التركواز ، ويقبع مسبح صغير في باحته الخلفية . كان برادبوري قد منحني قبل بضع سنوات فرصة لرؤية عدد من ملفاته المخزونة في (مرآب) البيت كجزء من متطلبات عملي في الإعداد لكتابة سيرته وقد عثرت في المرآب – من بين الاشياء الثمينة التي عثرت عليها – مخطوطة لحوار أعِدّ للنشر في مجلة ( باريس ريفيو ) كان برادبوري قد أجراه أواخر عام 1970 وليس واضحاً لليوم الأسباب الكامنة وراء عدم نشر الحوار وقتذاك ولكن بحسب تأشيرة مرفقة من مسوؤل التحرير في المجلة وقتها نقرأ الملاحظة التي تقول “ربما يكون الحوار طافحاً بالحماسة أكثر من المعتاد !! ” ، وقد وجدت أن من المناسب – وبخاصة أن برادبوري سيبلغ التسعين من عمره في آب ( أغسطس ) 2010 – أن اعيد نشر الحوار مدعوماً بحوارات محدّثة . ولد برادبوري عام 1920 في ( إيلينوي ) بالولايات المتحدة لأب يعمل في شركة طاقة محلية ، وكطفل نشأ معه شغف طاغ تجاه كتب ( فرانك بوم ) و (ادغار الان بو) ، ومنذ طفولته المبكرة أغرق نفسه في الانشغالات الثقافية الشعبية العامة من السينما والكوميكس والسيركات المتنقلة ، ولأن والد برادبوري كان عرضة الى البطالة في العشرينات والثلاثينات ( من القرن العشرين ) فقد وجدت العائلة نفسها تتنقل دوماً بين الينوي واريزونا وهو الأمر الذي خلق في برادبوري شعوراً بعدم الانتماء والتجذر تفاقما بعد موت جده المقرب إليه عندما كان في الخامسة ثم تفاقما بطغيانٍ أكبر بعد موت اخته الرضيعة متأثرة بتداعيات التهاب الرئة ، وغالبا ما ظهر تأثير هذه الفقدانات المرّة في أعماله لاحقاً ، وبقدوم ربيع 1934 انجذبت عائلة برادبوري الى الشمس المشرقة والتوظيف الثابت السائدين في كاليفورنيا فانتقلت اليها وظل فيها برادبوري طوال حياته ، وقد اعتاد كمراهق ان يطارد نجوم هوليوود ويجمع تواقيعهم ويلتقط صوراً مع بعضهم : ( جين هارلو ) و ( مارلين ديتريش ) و ( جورج برنز ) ، وبعد ان تخرج من مدرسة لوس انجلس الثانوية عام 1938 انضم الى جمعية لوس انجلس لرواية الخيال العلمي وهناك كوّن صداقات عميقة مع من سيكون له شأن كبير لاحقاً من امثال ( روبرت هينلين ) و ( لاي براكيت ) ، وفي عام 1940 وبمساعدة ( هينلين ) باع على طريقة المحترفين عمله الاول الى مجلة أدبية في الساحل الغربي تدعى ( Script ) . ساعد ضعف نظر برادبوري على إبقائه بعيداً عن صفوف المجندين في الحرب العالمية الثانية فاستغل هذه السنوات في ترسيخ اسمه كاتباً لروايات خيال علمي وحكايات غرائبية ، واستقبل النقاد ومجتمع الخيال العلمي بحفاوة بالغة كتابه الثاني ( السجلات المريخية The Martian Chronicles ) التي أشاد بها كريستوفر ايشروود واصفاً برادبوري بكونه “كاتباً ذا أصالة حقيقية وموهبة عظيمة غير اعتيادية” ، وبعد ثلاث سنوات من نشر السجلات المريخية نشر برادبوري رواية لازمت اسمه حتى اليوم وصارت علامته الفارقة التي يعرف بها : فهرنهايت 451 . كتب برادبوري أكثر من خمسين كتاباً وعمل في برامج تلفزيونية وأفلام كثيرة وأعد أعمالاً لِـ ( ألفريد هتشكوك ) وعمل في سيناريو لفلم مقتبس عن رواية ( موبي ديك ) اخرجه ( جون هيوستن ) عام 1956 ، وأسس عام 1964 شركة المسرح الصاخب التي ابتدأ معها تقديم اعماله المسرحية ومازال شغوفاً بالمسرح حتى اليوم كما نشر مجاميع شعرية عديدة وعمل في مجالات تبدو غريبة لم يسمع بها الكثيرون مثل العمارة ؛ فقد ساهم في تصميم اعمال عدة مثل فندق ( ويستفيلد هورتون بلازا ) في سان دييغو والتصميم الداخلي لسفينة الفضاء في مركز ديزني . مُنِح برادبوري عام 2000 ميدالية الخدمة المميزة للأدب الأمريكي من مؤسسة الكتاب القومية كما مُنِح عام 2004 الميدالية القومية للفنون ، ورغم اصابته بجلطة دماغية عام 1999 ووفاة زوجته ( مارغريت ) عام 2003 لا يزال برادبوري عظيم النشاط و يكتب بتوهج مدفوعاً بذلك الابتهاج الطفولي الأخاذ ( توفي برادبوري بعد سنتين من هذا الحوار المحدّث معه في كاليفورنيا بعد حياة منتجة شديدة الثراء امتدّت واحداً وتسعين عاماً ، المترجمة ) . سأنشر في حلقتين مقبلتين من ثقافية “المدى” تفاصيل الحوار مع ( راي برادبوري ) والذي نُشِر في عدد مجلة ( باريس ريفيو ) الذي أشرت إليه أعلاه . المترجمة
___________ *المدى