الغَامِضُ .. الوَاضِح

*هاني جابر

في اللحظة الأخيرة قبل تنفيذ حكم إعدامه يختار القاتل أسلوب موته، فإما المقصلة أو  الرصاص أو السيف أو حتى بالغاز أو الكهرباء، سيموت بعد دقائق ويختار أفضل طريقة من سلة الموت، استعد القاتل لموته المعلن والمحدد سابقاً، واستعد الجميع، أهل القتيل الضحية المطالِبُون بالقصَاص وأهل “الضحّية” القاتل الذي سيُعْدَم الآن عقابا على تجرؤه بالعبث في حياة الآخرين وموتهم أيضا… تهيّأ “العشماوي” أو “قيصر الموت” الجَهْم الضخم مُنَفَّذ الحكم، واطمئن أن أدواته في “سلة فاكهته” جميعها صالحة لتنفيذ الموت في موعده، خمس دقائق فقط حتى يُدَقُّ رأس الساعة فتُدَقّ العُنُق. وما أسهل الموت حينما تستدنيه بموعد وتحاصره في مكان محدد وتهيئ له طقوسه وتخضعه لشروطك، فالموت هنا يُساق إلى حتفه مكبلاً تابعا للقاتل الذي يساق أيضاً إلى حتفه الموعود.  ففي الرحيل الأبدي المرتب تختفي عن الموت مهابته وتذهب عنه سلطته المباغتة، فلا هو الموت التقليدي بغموضه ولا هو تلك اللحظة المجنونة بين قاتل وقتيل ومفترس متربص وفريسة آمنة هائمة تتقفى نبعها. الموت العادي حاضر ومكثف وعبثي ومباغت كزلزال والناس نيام.

أما الموت المشهر المعدّ له سلَفا، قضاءً وحكماً وقصاصاً، على مصطبة المقصلة أو جدار النهاية أو بحد السيف، فهو ضَعيف وهزيل تماماً.  وليس مهيبا إن سحله القاتل وراءه في سلاسل القدمين. ويضعف إن كان واضحاً جليّاً ومحددا في موعد زيارته.

وأما الموت الغامض الذي نحمله معنا منذ ولادتنا هو أشد وأقسى حينما يكون مفاجئاً يُغيّب ودون سابق إنذار حيّاً قد تجاوز فرحه المعقول في الشعور فتجلط دمه، أو سكت قلبه، فالميت هنا كسنبلة طرحت بذرها الأخضر قبل موعدها، فلا اختزنت سر الحياة ولا عاشت كما ينبغي، وماتت قبل أن تكتمل نشوتها. وهو المخادع القاسي المفاجئ العادي الذي أخذ قلب توأمين تسرّب إليهما غاز الشقة المجاورة أو تسلل إليهما الإهمال في سيارة مغلقة ظهيرة يوم قائظ.

الموت ليس هو الموت، لكنهما الغياب، هو العائم فوق رؤوسنا يتكرر ويدهشنا في كل مرة يختلس أحدنا وننساها أو نتناساه، وأما الموت المعلن ضعيف سجين قاتله بانتظار أن يتحرر  بيد “قيصر الموت”، موت مَعْلَنٌ يشتم فيه الميّت دمه قبل أن ينهمر، هو غيمة واضحة تلبّدت وهبطت وحان قطاف غيثها فاستعدت لها ربات البيوت فأدخلن غسيل الحياة وطوينه رطباً… طوينه كما تُطوي أيامنا غير المكتملة رحيلاً فرحيلا… إنه لحظة أن يتلمس قاتل دمه مثل فنجان قهوة ساخن، وعندها يموت الموت اللعُوب ويُخلق موتاً ناقصاً خانع لجسد القاتل الضحية. فالموت هنا ليس واحد وإن تحدد السبب والطريقة والموعد. فهنا تحت المقصلة موتٌ مكبّل بصاحبه، نهائي له ممراته وأبوابه وموعد انبعاثه، وأما الآخر الشائع بيننا سهل وعادي وشرس وغامض يحيا طليقا يختار من يختار دون حكم أو نقض أو استئناف، فلا محكمة له ولا قاضي ولا عقاب.

في الحياة نأكل من أيامنا لنَحْيَا، أما في ساعة الرحيل بغرفة الموت الحمراء عند الخامسة فجراً حيث عادة ما تُنَفّذ أحكام الإعدام، يكون الموت طيّعا كنمرة شرسة تخلّت عن  نزعتها في شرف القتل المجّاني، ناعس يُساق الموت الهادئ بالسلاسل. وكم سخر الموت الحر الطليق فوق رؤوسنا من تنبؤات عرافين وحتى توقعات الأطباء فيختار توقيته الذي يرغب مبكرا أو متأخرا، المهم أنه مالك سلطته وقسوته وعبثيتة ليَقطف ضحاياه من بستان الحياة دون موعد أو قرع باب.

يُسَاقُ المحكوم عليه بالإعدام ويتفقد أنفاسه وخطواته إلى ساعة الصفر، ويرافقه الموت بكل خنوع، فهذه المرة لن يتسلل من ثقب الباب أو في نعاس سائق متهور أو لسعة أفعى قاتلة في فناء المنزل، أو سقوط طائرة تمت صيانتها قبل الصعود وما أصابها خلل قط في تاريخها. هكذا إذا، يحيا الموت شرساً إذ يأتي يلمع كبرق دون رعد مسبق، فنموت دون موعد مسبق. وإلاّ ما معناه إن أعلن عنه على عتبة الرحيل أيا كانت طريقة الإعدام وأيا كان ” القاتل الضحية ”  بريئا أم مجرما.

ومن يتحكم في اكتئابه ووسواسه القَهْري فإنه حتما يقهر الموت الخفي في عيشته بنعيم الحياة، ومن يستعجل الرحيل فينتحر في ساعة ما يختارها على جسر أو قمة جبل أو مبنى أو غيره، فهو مقهور الحياة، والمفارقة هنا أنه أيضاً قاهر الموت التقليدي إذ تقررت الطريقة والتوقيت. وأقسى ما في الأمر إذا تصارع الموت والحياة عند لحظة الحسم وضاع الخلاص السرمدي بين البقاء والرحيل. فلا ذهبت الحياة ولا اسْتُعجِل الموت برصاصة الرحمة الأخيرة.

إن العبور الضيّق في ممر اللحظة اللامعة بين الحياة والموت كان دائما هاجس الكثيرين من الجماعات الإثنية والمذهبية والعقائدية والعرقية بين شعوب الأرض. فهو الغامض الواضح، الغامض بفجائيته وما حمل من تكهنات وتصورات لضحاياه الموتى، وهو الواضح في حقيقته واختفاء من يموتون أمامنا وغيابهم القسري إما دفنا وتحلّلا أو حرقا ورمادا فنثرا على قمم الجبال أو في الأنهار المقدسة أو حتى في الأيقونات المعلقة في صدور المنازل، أو عبوات مزركشة معلّقة على صدور من نسيهم الموت من المحبين المكلومين.

في الساعة الخامسة إلى تسع دقائق فجراً ، سأل “العشماوي” سيد الموت، المحكوم عليه بالإعدام: ماذا تشتهي؟ قال: فنجان قهوة مرّة ساخنة، وأن ينفذ حكم الإعدام في الساعة الخامسة إلا دقيقة فالموت تافه وحبيس وضعيف، وأنا أريده باكراً قليلا أحاصره كما أشاء، وكان له ما شاء وكان واضحاً حراً.

_______

عن جريدة “البيان”. الاماراتية

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *