أدباء منتحرون: لا مكان لنا


علي عبيدات


خاص ( ثقافات )

يعدُ الانتحار من أقدم الظواهر في تاريخ البشرية، وهو علة لا يمكن حلها لأن أكثر حالات الانتحار تكون صادمة، فلا يمكن التنبؤ بانتحار فلان عبر مؤشرات صادق عليها علم النفس أو لمحها المرء في حياة المنتحر قبل أن يقوم بفعل الانتحار، لهذا ظلت عالقة حتى يومنا هذا بينما تحصد الشباب في مجملها، دون علاج أو تفسير ثابت يبيّن الأسباب ويقدم الحلول للانتحار.

لا يختلف انتحار المبدعين عن انتحار غيرهم، لكن ربما تتسمع مساحات التأويل لأننا أمام عقول ووعي ومواهب ساهمت بريادة هذا المنتحر باعتباره مبدعاً، وربما كان الإبداع بحدِّ ذاته حملاً كبيراً أجهد صاحبه أو خلق الشروخ بين المبدع ومحيطه، لتكون أسباب الانتحار أكثر وتسوغ نفسها للمبدع بصورة أكبر لها أن تنهي حياته بعد اتخاذ قراره وفق ما تمليه عليه رؤاه التي امتاز بها عن غيره. 
ولعل الثنائيات التي أصلها الذات والآخر أرضية انتحار المبدع ضمن جدليات لا تنتهي، أبرزها الفجوات بين المبدع ومحيطه وبين رؤيته وما يعيشه وبين آماله وإحباطه وبين انخراطه بالمجتمع وانكفائه وبين تقبل فكرته وغض الطرف عنه وعنها، ليكون المبدع أمام خيار أخير مفاده الانتحار لأنه لم يعد قادراً على البقاء بين الحياة والموت. 
فلاديمير ماياكوفسكي 37 عاماً (مسدس)
جاء من جورجيا إلى موسكو بحثاً عن المجد والقصيدة والثروة والثورة، عاش قليلاً وكتب جيداً، بدأ مشواره الحزبي وهو في الخامسة عشرة من عمره عندما انضم إلى حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي بعد أن فصل من الدراسة بسبب عجزه عن دفع المصاريف، وانغمس بعدها بالمشهد الثقافي والنضالي وكرر محاولة الدراسة مرة أخرى وتخرج في كلية الفنون الجميلة 1911. وبرع ماياكوفسكي شاعراً وكتب العديد من المسرحيات التي كللها بطابعه النفسي ووصف بها طابع مجتمعه العام، فكان صارخاً وحاداً لا يؤمن بأنصاف الحلول، وله آراء عنيفة بالدين والسلطة السياسية، وتسبب هذا بجلب المتاعب له وسجنه وتضييق الخناق على مؤلفاته.
وبين الطبقة الاجتماعية المسحوقة التي ينتمي لها ماياكوفسكي، وفشله الذريع في الحب وقمع السلطة لمؤلفاته ومنعه من السفر وخيبة أمله بالثوريين الذي باعوا مبادئهم وانكسار أحلامه وآماله النضالية، استسلم ماياكوفسكي أسفل القشة التي قصمت ظهر البعير وزاد حمله بسبب ضياع حبيبته منه وخطبتها لغيره، وأطلق الرصاص على رأسه بعد أن كتب قصيدة ختامية بيّن فيها بشاعة العالم.
صادق هدايت 48 عاماً (موت بطيء بالغاز)
أبو الرواية الفارسيَّة ومن أقطاب الرواية الشرقية، ترجمت أعماله إلى عشرات اللغات الحيَّة، وقاده الاكتئاب إلى الانتحار بطرق مختلفة وأكثر من مرة، لكنه مات بعد أن فتح الغاز في شقته الفرنسية وبدأ يتأمل الكون والغاز يفقده وعيه على مهل ليودع الكون بعد أن كتب لنا رائعته “البومة العمياء” وقصته القصيرة التي ترجمت إلى كل لغات الدنيا “الكلب الضال”، وكتب أيضاً مجموعته القصصية الغريبة، “الموءودة” وغيرها من الروايات، وأبدى رأيه برباعيات الخيام في كتاب مستقل باعتباره كان مولعاً بالهوية الفارسية، فقد تعلم اللغة البهلوية (الفارسية القديمة) ليقرأ إرث حضارته باللغة الأصل، حتى أنه كان يكره العرب وينظر لهم بدونية لأنهم احتلوا فارس. 
ركز هدايت في رواياته على الكوامن النفسية وصراعات الذات والآخر، ودائماً ما نجد مجنوناً أو منبوذاً يكره محيطه في رواياته وقصصه، وقادته الاضطرابات النفسية إلى الانتحار غير مرة، ونجح في المرة الأخيرة ليخف حمل سخطه على المحيط وعدم انسجامه مع الآخرين، وبهذا رفض البقاء بين الحياة والموت وانتحر.
هيمنغواي 62 عاماً (بندقية الصيد)
بدأ الكتابة بغرائبية وعبثيّة صادمة، وسم بأثرها بالسوداوي الناقم على الدنيا وما فيها، فهو ممن أغرقوا السفن الألمانية في الحرب العالمية الأولى مع الجيش الأمريكي، وكانت من صفاته المتقدمة المزج بين القوة البشرية والقوة الخارقة ليسمو بالعقل البشري ويبين الكوامن النفسية البشرية تعظيماً لدور العقل، ولعل هذا الوعي بين الخارق والمعيش جعل خيار الموت أقرب الخيارات له.
أول صديقة دخلت إلى حياة همينغواي كانت بندقية صيد لازمته ونسج وهو يتجول بها قصصه قبل أن يكون محارباً في الجيش ومتطوعاً مع الجمعيات الحقوقية بين أمريكا وفرنسا التي دخلها وصادق رواد حركتها الفكرية، ولا تخلو قصصه ورواياته من شخصية الرجل الصبور الذي يكابد الصعاب والعقبات في حياته، ولعل هذا من مبررات إنهاء حياته بخيار الموت من فرط ما كان حمالاً لأسى حياته التي بدأت في عائلة محافظة كان الانتحار مشهوراً فيها، فقد انتحر والده “كلارنس همنغواي”، وكذلك أختاه غير الشقيقتين “أورسولا” و”ليستر”، على هامش الاضطربات النفسية التي جعلته يفجر رأسه ببندقية الصيد رافضاً البقاء بين الحياة والموت.
تيسير سبول 34 عاماً (رصاصة الصباح)
كان الأب مزارعاً يصارع غيلان الحياة ليتعلم أبناؤه في الجامعة، وكان الأخ ملاحقاً وسجيناً بسبب مواقفه السياسية التي صقلت وعي تيسير سبول السياسي ورفضه للسلطة منذ طفولته، وبين الحالة الاقتصادية المتوسطة وأجواء العائلة الكربلائية حزناً على الابن المعتقل، نبغ تيسير الطفل ذكياً فطناً ونما وعيه الفكري والأدبي في محيط كله قلاقل وانكسارات أسبغت على لغته الشعرية هالة الانكسار والخذلان واللاجدوى بدايةً من عناوين قصائده وحتى مضامينها.
بيروت بجمالها ومناخها الثقافي اللافت آنذاك لم تحجب تيسير عن همه بالعروبة وانكسارات أمته، فقد فجع في نكسة حزيران 1967 وكسر ظهره بعد قرار وقف إطلاق النار في تشرين 1973، لتموت بهذا أحلامه وآماله، وبين شعره “أحزان صحراوية” وروايته “أنت منذ اليوم” رسم تيسير خطوطاً عريضة لتجربة إبداعية لم تكتمل بكل ما فيها من مواقف صارخة وأحلام قتلت صاحبها، ليرفض بأثر قرار وقف إطلاق النار في تشرين 1973 البقاء بين الحياة والموت وينتحر برصاصة قتلت همَّ جيل كامل، على مهل.
سيلفيا بلاث 31 عاماً (غاز وفرن)
قبل أن تقدم لنا شعرها المليء بالقُطن والحقن والصراخ والانكفاء في أعمالها الخالدة “العملاق” و”قصائد متجمعة” و”الناقوس الزجاجي” وغيرها، وقبل أن تمسي من الأصوات النسائية المهمة في العالم، كانت سيلفيا بلاث تولد في أحد مستشفيات بوسطن الأمريكية ويدفع والدها كيساً كبيراً من المال للمستشفى بسبب الركود الاقتصادي الذي كان يجتاح أمريكا آنذاك سنة 1932، وعاشت في كنف أم وأب تفصل بينهما عشرون عاماً.
كان الرسم عزاء الطفلة بعد أن قطعت ساق أبيها ومات وهي في سن الثامنة، فكانت تكثر من زيارة قبره وتحاول أن تكتب له كلاماً منثوراً يعبر عن حالة طفلة بدأت الوحدة تدخل حياتها، وكان لتنقل العائلة بين مناطق مختلفة في أمريكا أثراً كبيراً على حياة طفلة همّت بالبلوغ تحت مسؤولية أمها التي حاولت أن تضاعف الرقابة بعد موت الأب، وكانت شخصية اليافعة المنعزلة تتكشف بين كتابة القصص القصيرة والرسم والشعر والانفلات من الدين والشعور بالاختناق كما تشي قصائد تلك المرحلة.
احترفت سيلفيا شعر الاعتراف الذي يتطلب من صاحبه الغرق في ذاته والاستبطان الصرف، فقد تماهت مع ذاتها بشكل مفرط وشكلت لنفسها سلطة ومواقف كبيرة عاثت بعقلها وتواصلها مع الناس خراباً، وعاد هذا عليها بالاكتئاب المزمن والاضطرابات النفسية، وزاد الاكتئاب بعد أن تزوجت وأصبحت أماً لطفلين وبدأت أصعب مرحلة في اكتئابها وعزلتها منذ 1956 حتى ضاق العالم عليها وانتحرت بطريقة هستيرية في بيتها عام 1963، فقد أغلقت كل منافذ الهواء في منزلها بدقة تامة، حتى أنها أمنت أطفالها في غرفتهم وسدت منافذ الهواء عليهم لتفتح أنبوب الغاز في المطبخ وتضع رأسها في الفرن وتفتح أنبوب غازه أيضاً، واستنشقت الغاز على مهل حتى فقدت الوعي وغابت إلى الأبد.
فيرجينيا وولف 59 عاماً (غرق هادئ)
لا يجد الباحث في حياة فيرجينيا وولف أي شذوذ أو غلو في مواقفها أو تعاملها مع الآخرين، فهي كغيرها من الإنجليزيات الكاتبات في بدايتها وبعد أن وضعت لنفسها موضع قدم في المشهد الثقافي الإنجليزي بين كتّاب القصة والروائيين. لمع نجمها كروائية تأثيرية وصاحبة أسلوب خاص بالرواية التقليدية الملتزمة والمليئة بالقيم الإنسانية كشخصيتها (السيداة دالواي) و(الليل والنهار) (الأمواج) وغيرها من الروايات التي لحق بها كتب في النقد الأدبي والسيرة.
كان والدها كاتباً مرموقاً وأمها من سيدات المجتمع، وتزوج الأب أكثر من مرة وكذلك الأم، لتكون فيرجينيا في بيت مليء بالأطفال من فرط ما تزوج وترمل أبواها. وبعد هذا الهدوء في حياتها وشهرتها، أصيبت بخيبة أمل خدشت إيمانها بذاتها باعتبارها حساسة إلى حد بعيد، كان سبب هذه الخيبة كتابتها لسيرة صديقها “روجر فراي” الذاتية، فلم تأخذ السيرة حقها بعد النشر وكان هذا السبب الذي ربما لا يكون كافياً للانتحار أول صدمة تواجهها في حياتها الهادئة، لكن، تزامن هذا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية وتضرر مدينتها لندن بالقصف، وبين الرعب وخيبة الأمل، كتبت فرجينيا رسالتها الأخيرة ووصفت فيها أن مكانها لم يعد لها في هذا العالم وأنها سعيدة بقرار الانتحار، وارتدت معطفاً كبيراً من معاطفها وملأته بالحجارة وأغرقت نفسها بهدوء في نهر قريب من حيها.
*اللوحة: موت سقراط، للفنان الفرنسي جاك لوي ديفيد.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *