الرّواية وجغرافيا المكان.. حوار مع الروائي ديفيد معلوف (3)

*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

ديفيد معلوف David Malouf ( اسمه الكامل ديفيد جورج جوزيف معلوف ) : روائي وشاعر مولود عام 1934 في مدينة بريسبين بمقاطعة كوينزلاند الأسترالية لأب لبناني وأم بريطانية ، وقد سبق لعائلة أبيه أن هاجرت إلى أستراليا في ثمانينات القرن التاسع عشر . تعكس أعمال معلوف خلفيته الإثنية وكذلك طفولته وشبابه في مقاطعة كوينزلاند الأسترالية ، ويمكن وصف رواياته بأنها روايات ( جغرافيا المكان وتضاريسه ) إلى جانب الكشف عن  التأثير الحاسم الذي يلعبه المكان في النشاط الإنساني والإبداعي بخاصة .

حصل معلوف على شهادة البكالوريوس بتفوق من جامعة كوينزلاند عام 1954 ، ثم عمل بعدها في القارة الأوروبية للفترة من عام 1959 وحتى 1968 ، وبعدها عاد لممارسة تدريس اللغة الإنكليزية وآدابها في جامعة سيدني حتى عام 1977 وتفرّغ بعدها للعمل ككاتب محترف موزّعاً وقته بن أستراليا وإيطاليا .

رغم أن معلوف يُعدُّ كاتباً روائياً غير أنه أبدى شغفاً عظيماً لايفتر بالتأريخ والسايكولوجيا البشرية ، ويبدو واضحاً من خلال قراءة أعماله الروائية والقصصية أنه ابتدأ مهنته الكتابية شاعراً ذا حساسية عميقة تجاه النغمة والإيقاع والصورة المشهدية – تلك السمات التي باتت حاضرة لاحقاً وبموهبة واضحة في نثره الذي يشعّ جمالاً وبخاصة عندما يحكي عن جغرافيا التضاريس الأسترالية .

يعيش معلوف في مدينة ( سيدني ) الأسترالية على نحو مستقر بعد أن طال عهده بالمكوث في إيطاليا لسنوات عدة ، وهو معتاد على السفر إلى إنكلترا وإيرلندا بين الحين والآخر لكنه آثر المكوث في بلده الأم أستراليا معظم الوقت حيث يراقب الأمزجة الثقافية المتغيرة والمناخ السياسي في بلده بكثير من الحكمة والتبصر . تجدر الإشارة أن معلوف واحد من أكثر الروائيين المعاصرين إتقاناً للغات الحديثة ؛ فهو يتقن اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية إلى جانب الإنكليزية بالطبع ، كما أن له شغفاً عظيماً ومعرفة عميقة بالموسيقى الكلاسيكية وفن الرسم ، وثمة ميزة دائمية طاغية في أعماله : جنوحه للتعامل مع الشخصيات التي تتّسم بالبراءة وقلة الحيلة وعدم امتلاك أيّ من أدوات السلطة ووسائلها .

يُلاحَظ غياب الشخصية اللبنانية والعربية في كل أعمال معلوف باستثناء قصة حياته وسيرته الذاتية في كتابه السيري الذاتي ( 12 Edmonstone Street  ) الذي ذكر فيه  جذوره اللبنانية جراء تربيته وحديثه مع جدّيه اللبنانيين اللذين لم يتكلما الإنكليزية ، ويبدو واضحاً أن معلوف لم يخصص في أعماله الأدبية أي دور لشخصية لبنانية لأنه ينظر في أعماله من منظار العولمة والانفتاح وتجاوز المحدوديات المحلية والإثنية واللغوية .

الآتي هو القسم الثالث من حوار شامل مع معلوف ظهر في مجلة ( BOMB – Artists in Conversation  ) خريف عام 2007 ، وأدار الحوار ( كولم تويبن Colm Toibin ) وهو روائي إيرلندي معروف بأعماله الروائية المهمة إلى جانب أعماله في حقل القصة القصيرة والشعر والمسرح والنقد الأدبي كما يكتب الأعمدة الصحفية في عدد من الصحف المميزة .
 المترجمة
514314

__________
* تعلم الطريقة التي يبتغي فيها الجميع – وأنا أفعل هذا بقدرٍ ما – قراءة أعمالك على أنها استعارة للجزء الأكثر عمقاً في النفس أو في الأمة : شيء يمكن للمعالج النفسي التعامل معه بشكل أكثـر مهنية من القارئ ، لكن الأمر يختلف مع عملك ( حياة متخيلة ) الذي لايسعني القول بشأنه سوى أن لافكرة واضحة لديّ عمّا كنت تبتغيه أصلاً من وراء إنجاز هذا العمل . كيف فكّرت بهذا العمل وكيف تسنى لك جعله على هذه الدرجة المدهشة من الكمال في الصنعة الأدبية إلى حد بات يُنظر فيه الآن إلى هذا العمل كما لو كان نوعاً من أعجوبة أدبية غير معهودة في سابقاتها من الأعمال الأدبية ؟
–  من الممتع أن أسمعك تقول هذا لأن عملي ( حياة متخيلة ) يبدو لي كتابي الأكثر احتواء لتفاصيلي الشخصية والأكثر كشفاً لسيرتي الذاتية ، ويتفوق بهذا الشأن على كتابي الآخر المماثل  ( جونو ) . كتبت عملي ( حياة متخيلة ) في سيدني أواخر عام 1976 بعد أن اصطادتني شِباك الحبّ وكنت حينها في حالة من الابتهاج يمازجها الإحباط والحزن وكل أنماط الشعور السلبية الأخرى ، وعندها عزمت وللمرة الأولى في حياتي الاحتفاظ بمذكرة لكتابة يومياتي ، وحصل بعد أسبوعين أو ثلاثة من اعتمادي لفكرة تدوين يومياتي أن كنت ذاهباً في جولة طويلة مشياً على الأقدام للتسوق وحينها كتبت مقطعاً طويلاً من العمل في ذهني وحفظته في ذاكرتي ولم أكن أعرف كيفية تجنيسه أدبياً : أقصيدة نثرية هو أم شيء يشبه مقطعاً في رواية أم  هو محض حوار داخلي ( مونولوغ ) ذي نبرة درامية ؟ كان الأمر معي يشبه شيئاً ممّا اختبره ( أوفيد ) مع نبات الخشخاش المخدّر لذا غمرني شعور بوجوب أن اكتب شيئا ذا صلة بِـ ( أوفيد ) على الرغم من عدم معرفتي الواضحة للشكل الأدبي لِما أنا عازم على كتابته . عندما بلغت المنزل عائداً من جولة التسوق دوّنت على الفور ذلك المقطع الطويل في يومياتي وكتبت في خاتمته ملاحظة تقول ( أظن هذا المقطع يلائم كتاباً عن أوفيد ) ، وبعدها بأسبوعين وجدتني ببساطة منغمساً في كتابة الكتاب ابتداء من ذلك المقطع . تخبرني يومياتي أنني كتبت الكتاب بأكمله في واحد وعشرين يوما عمل خلال فترة امتدت لما يقارب الستة أسابيع . لو كان أي كاتب محظوظاً بما يكفي لكان أحد كتبه هبة له ، وأظن أن كتابي ( حياة متخيلة ) هو هبتي أو المنحة الموعودة التي لطالما حلمت بها .

13906759_1339611396067690_5249367771956196130_n
*  لو حسبنا أنك كنت تنوي في أعمالك  ( جونو ) و ( إذهب بعيداً بيتر ) و ( العالم الجديد ) ومجموعات قصصك القصيرة كتابة العهد الجديد لأستراليا ( أو لإحساسك ، أو لخيالك على نحو سواء ) ، فإنك في عمليك ( تذكر بابل ) و ( المحادثات في كرلو كريك ) تبدو راغباً في تدوين العهد القديم للقارة …………….
–  ( ضحكة ) هذه طريقة جميلة للتعبير عن الأمور …………..

*  أصبحتَ أكثـر اهتماماً – كما يبدو لي – بالتأريخ الأسترالي القديم ؛ أي بالكيفية التي تشكّل بها بلدك أستراليا . ثمة شعور بأن أستراليا كانت حيزاً فارغاً وملأتها أنت بالتأريخ والكلمات بعد كتابتك لهذين العملين . لو جئتَ أستراليا زائراً لرأيتَ كم أهلها طيبون ولرأيت الكثير من الشمس المشرقة والفضاءات الرحبة والحرية ، ولكن ثمة لطخة سوداء وسط كل هذا : لطخة سوداء مستمرة تخص التعامل مع السكان المحليين الأصلاء ؟
–  في كتابيّ اللذين أشرتَ إليهما عدت إلى البدايات الأكثر قتامة في تأريخنا . ثمة جانب أسود في التأريخ الأسترالي فيما يخص استخدام العنف وبخاصة تجاه شعب الأستراليين المحليين الأصلاء ، وفي كتابي ( المحادثات في كرلو كريك ) نقرأ مثلاً عن شاهد من السكان المحليين أضطر لملازمة جانب الصمت أمام مجزرة مروعة . إن الكتابة عن تجربة السكان المحليين قد تكون أحياناً تجارة مخادعة في أستراليا بسبب الرغبة الجامحة في تصحيح الأوضاع السياسية من جانب الحكومة أو بسبب قدرة هذا النوع من الكتابة في توفير جانب من اللياقة السياسية التي تحتاجها أية حكومة . إن الكتابة في موضوعة سوء معاملة الشعب الأسترالي المحلي الأصيل تحتاج في معظمها مقاربة لاتجنح نحو تحقير الوعي الوطني ووصمه بالعار التأريخي وكذلك لاتعمد لتشويه صورة أستراليا أمام العالم ، ومن أجل هذا ربما ليس بإمكان الكاتب الولوج نحو معالجة كل التفاصيل بصرف النظر عن مدى تعاطفه أو معرفته الحدسية بمعاناة هذا الشعب ، وعلى هذا الأساس يمكن مقاربة الموضوع بطريقة التفافية هادئة وهو ماسعيت لفعله في عملي ( تذكّر بابل ) .

13876096_1339609379401225_3987937589930045913_n
*  هل تتفق مع الرأي القائل بأن شيئاً مدهشاً للغاية قد انبثق وسط كل هذا الشعور بالذنب والعار في التأريخ الأسترالي فيما يخص السكان المحليين – أعني بهذا الشيء فن الرسم الذي أبدعه هؤلاء حيث تبدو رسومات الجسد البدائي أو رسومات القبائل متناغمة إلى حد مقبول مع النزعة ( التعبيرية التجريدية ) في فن الرسم المعاصر ؟
–  بالتأكيد إن واحدة من الظواهر المدهشة في أستراليا اليوم هي الفن الخاص بالسكان المحليين : ذلك الفن الذي ينتجه المئات من السكان المحليين – وأغلبهم من النساء – ، وقد غدا هذا الفن اليوم أكثر الفنون جذباً للمشاهدين بين كل الفنون المعاصرة في أستراليا .

13932835_1339611649400998_1311737184554273853_n
*  تبدو مواطناً أسترالياً مثالياً لي لابسبب كونك تتقن ثلاث لغات أوروبية ( عدا الإنكليزية ) بل لأنني أرتعب أحياناً لعلمي بالمدى الموسوعي الذي تبلغه معرفتك في حقل الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية!
–  لطالما كانت الموسيقى أمراً عظيم الأهمية في حياتي : عندما أراجع كتابتي بغية تنقيحها كثيراً ما أحاول استبدال مفردة ما بمفردة أخرى أكثر صواباً منها ولكن مايمنعني من إتمام ذلك معظم الأحيان هو الموسيقى . أفعل هذا في العادة لأنني أعلم أن الموسيقى تبدو لي قادرة على التعبير عمّا أريد قوله بالكلمات مع الفارق بأن الموسيقى أكثر قدرة على تحسس الفروق الدقيقة غير المحسوسة بين الكلمات . يمكنني إجمال الأمر بأن الموسيقى تمتلك سطوة طاغية ودائمة على فن الحكي القصصي بأكمله.

______
*المدى

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *