يوجين غابريتشيفسكي الفنان الذي اعتزل العالم

*أبو بكر العيادي

ولد يوجين غابريتشيفسكي (1893-1979) في موسكو وسط عائلة بورجوازية مثقفة تتقن عدة لغات كعادة أسر تلك الطبقة زمن القيصرية. مارس الرسم منذ صغره ولكنه اختار أن يسير على خطى والده ذي التكوين العلمي المتين، فاهتم بالوراثة والتحولات الجينية.

ولما حصل على دبلوم الدراسات العليا في البيولوجيا من جامعة موسكو في أوج اندلاع الثورة البلشفية عام 1917، سافر إلى أميركا حيث التحق بجامعة كولومبيا بنيويورك وعمل في مختبر علم الحيوان تحت إدارة توماس هانت مورغان، الذي سيتوج بعد أعوام بجائزة نوبل للطب. واستطاع بفضل بحوثه وتجاربه أن يحوز على شهرة كبيرة في الأوساط العلمية العالمية، حتى أنه دعي عام 1927 للعمل في معهد باستور بباريس، دون أن يتخلى عن الرسم في أوقات فراغه.

ورغم حدة ذكائه، التي كان أصحابه وزملاؤه يقرّون بها، وسعة ثقافته، كان نهبا لاضطرابات نفسية تمنعه من مواصلة مسيرته العلمية ومن حياة عاطفية مستقرة، بلغت ذروتها عام 1929 فنقل مرة أولى إلى المستشفى. وجاء في رسائل أخيه جورج أن يوجين كان يعاني من هذيان ذهاني لا يعرف مبعثه. وبعد أزمات أخرى واضطراب في السلوك تحول إلى عنف، عرضه أخوه عام 1931 على أخصائيين في مونيخ، انتهوا إلى وضعه في مصحة للأمراض العقلية، لم يغادرها حتى وفاته عام 1979.

وبذلك بدأ فصل ثان من حياة غابريتشيفسكي، حبيس مؤسسة نفسانية، أي ما يعادل كابوسا مطلقا في ذلك الوقت. فكان الفن شرط بقائه. لم يصبح رساما بسبب مرضه، فقد كان يمارسه من قبل كما أسلفنا، بل إن المرض حفّز خياله وفتح له آفاقا جديدة، كان يخطها في أحجام صغيرة، مستعينا بالرسوم المائية (أكواريل، غواش)، دون أن يتخلى عن فكره العلمي في إنجازها، فقد كان يُسلِم فرشته للتجربة ومفاجآتها غير المحسوبة، إذ كان يتلاعب بالمادة، فيفرّك ويمهر وينشف ويحزز، أو يطوي الورق ويترك المادة تنبسط على هواها ليُعدّل منها الخطوط والألوان في وقت لاحق ويخلق أشكالا غريبة شبيهة بخلايا مجهرية، أو أفراد يتنقلون في ديكور غامض.

ولا ندري هل أنها صور عن زملائه كما يدركهم وعيه أم هي أشباح الماضي. ما نعرفه أن غابريتشيفسكي كان يقول عن رسومه إنها تمثل الموت والحزن والانفعالات والأوضاع المضحكة للأرواح وللعناصر التي على الأرض واستحالة السعادة، والحالات الغريبة للروح وللرب الذي تاه هو أيضا في حلّ كل شيء.

طوال 20 عاما، كان نهبا لدفق من الإبداع قبل أن ترتخي فرشته وتتراجع قوة الابتكار لديه، ما جعل أطباءه يفسّرون تلك الأعراض ببدء التعافي، ولكن في الواقع، كانت نتيجة العلاج بالمستحضرات الكيميائية، الذي وإن خفف آلامه وعذابه، فقد حدّ من إلهامه وقلص خياله. وحتى العام 1950، لم يكن أحد يعرف غابريتشيفسكي، لولا جان دوبوفيه أبو الفن الخام، الذي سوف ينقذه من النسيان. فقد عرف عنه دفاعه عن الفنانين غير المحترفين والمهمشين، ونزلاء المصحات، وكل خارج عن الناموس والقاموس، مثلما عرف عنه جمعه لأعمال مضادة للتيارات السائدة. اتصل عام 1948 بالطبيب الذي كان يعالج يوجين ثم بأخيه جورج الذي خشي أن يُدرَج أخوه في خانة المجانين، فلم يسلّمه سوى رسوم بالفحم كان أنجزها في بداياته بنيويورك، ذات سمة كلاسيكية، ما دفع دوبوفيه للتوجه مباشرة إلى مصحة ميونيخ الذي أقام فيها الفنان، فأمده الطبيب المباشر بأعمال مذهلة هي التي ستكون سبب شهرته من بعد.

فما كادت تظهر للعموم، حتى أبهرت عددا من المبدعين من هنري ميشو إلى ماكس إرنست الذي انبهر بالكيفية التي استطاع بواسطتها فنان معزول عن العالم أن يصوغ أعمالا شبيهة بأعماله هو. أعمال وجهتها قوة اللاوعي نحو مناطق خيالية لا يتصورها أحد. ذلك أن غابريتشيفسكي ذهب إلى حيث لم يسبقه أحد، كي يبلغ، ولو عبر اضطراب نفسي حاد، نقطة تكشف فيها الحياة عن الروعة المرعبة للتحولات اللامتناهية بين العضوي واللاعضوي، النباتي والمعدني، الإنساني والحيواني.

اضطراب لم يكن جنونا بل انخرام حواسّ شبيه بذاك الذي عاشه رامبو، حين كان يدعو الشاعر إلى تحمل عبء البشر والحيوان أيضا. فغابريتشيفسكي ما انفكّ منذ صغره يتماهى مع أي حياة يريد أن ينفذ إلى أسرارها، إلى أن وقع في الجانب الآخر. وتقول الباحثة فاليري روسو “لم يكن غابريتشيفسكي فنانا مصابا بالشيزوفرينيا ولا عالما متوقد الذهن فحسب، بل كان أيضا صاحب رؤية ثاقبة، استطاع أن ينقل إلينا ثراء عوالم مجهولة لا تنتهي، حتى صار مُنجِّمَ حداثة تبحث عن نفسها”.
__________
*العرب

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *