علي نسر
تشغل الرواية العربية اليوم مساحاتٍ واسعة من صفحات الكتّاب، سواء على الصعيد الابداعي أم على الصعيد النقدي، لما تشهده الساحة الأدبية من غزارة في كتابة هذا النوع من الأدب. من المعروف أنّ عالَماً روائيّاً يشكّل معادلاً موضوعيّاً للعالم المرجعي، هو ما يحاول الكاتب تشييده، موظِّفاً العديد من التقنيات والعناصر الروائية كصلصال خاصّ يدب فيه الروائي من روحه فيسوّيه، مُطلقاً من خلال تضافر هذه العناصر رؤيته للعالم. كلّ هذا يكون عبر أسلوب فني من السرد، يتوقّف عليه تميّز الكاتب، إذ غالباً ما تقاس أهمية العمل الروائي بأسلوبه، والتوفيق بين الفنّية وما يطرحه الكاتب، خصوصاً أنّ الموضوعات تتقاطع وتتلاقى وتتداخل إلى حدّ التشابه، فيبقى للطريقة الفنية الشأن الأكبر في جمال النص أو عدمه.
يُعدّ الراوي عنصراً فنياً أو تقنيّة سردية كباقي التقنيات، يوكل إليه الكاتب ـ من بعيد أو قريب ـ مهمّة الحكي وإدارة العرض والحوار والتبئير، ويختار له نوعاً من أنواع الرواة العديدة، فقد يكون عالماً مطلق المعرفة، يروي المكشوف والمستور عبر ضمير الغائب كناظم خارجي، أو قد يكون محدود العلم متساوياً مع الشخصيات في المعرفة كبطل من أبطال النص، وقد يكون أقلّ علماً من الشخصيات يقدّم ما تقوله فقط، كفاعل داخليّ أو ذاتيّ. لكن الكمين الذي يسقط فيه الكاتب غالباً هو التسرّع في استخدام الراوي أو الشخصيات إذا كانت من الرواة، حين يحمّلها أكثر من طاقتها، ويبتعد من دوره الأساس ألا وهو الإخراج من بعيد، فيفرض نفسه من دون تسويغ ليعرض ما يريد عبر موقف فجّ، منحّياً الراوي والشخصيات، ومعطّلاً تقنيات السرد الأخرى، ومتغلغلاً بضمير المتكلم العائد إليه، ومتوجّهاً إلى الآخر مباشرة، فنراه خطيباً واعظاً مستهتراً بشخصياته وراويه والقارئ أيضاً، من دون أن يدري، ومحوّلاً المتلقّي إلى متلقٍّ سلبيّ، حارماً إيّاه من لذّة الاكتشاف والتحليل والمشاركة في الكتابة، كما يجب أن يكون.
يعتمد مثل هذا النوع من الروائيين طريقة شبه ديكتاتورية في التعامل مع نصوصهم وقرّائهم. وبدلاً من اعتماد فكرة نموّ الحدث والشخصيات على رسلها، يرسم الكاتب ملامح شبه نهائية لمصير الأبطال منذ انطلاقة العملية السردية، ويحدّ من الحركة التي تجعلهم يقدّمون أنفسهم بطريقة إقناعية أكثر، ويصبح همّه الأكبر أن يطلق رؤيته عبر أيّة طريقة تتوافر لديه، فيهتمّ بعرض المعلومات والتفاصيل التاريخية والاجتماعية والفكرية، مستغلاً أحياناً خبرته في أحد مجالات الحياة والاختصاصات، متغافلاً عن أنّ العملية الابداعية تتكشّف وتتجلّى حين تصبح عملية أسلوبية فنية أكثر من كونها عمليّة مرتبطة بالموضوع، خصوصاً أنّ الموضوعات مطروحة في الطرقات.
ليس الكاتب المجيد من يقول الأشياء بأسمائها مباشرة، بل الكاتب المتميّز هو الذي يرافقه شبح المتلقّي منذ انطلاق الكتابة، فلا يكتب مقصده بقدر ما يعنيه مقصد القارئ الشريك الأساس في نصّه، والنصّ الجميل هو الذي لا تتوقف رؤيته على القراءة الأولى التي يفرضها الكاتب وتدخلاته، بل النصّ الذي تكون كلّ قراءة جديدة ميلاداً جديداً له، على أن يحترم الروائيّ تأويلات القرّاء المتنوّعة ويتبنّاها، وإن اختلفت عن مقاصده، إذا كانت إغناء للنصّ. هذا يتطلّب جهوداً وتضافراً بين عناصر تكوين العمل، وأكثر من وما يتوقف عليه الأمر هو الكاتب نفسه عبر راويه وشخصيته الأساس، فليس المطلوب من الروائي سوى أن يكون مُخرجاً متوارياً خلف ستارة المسرح، يحرّك شخصياته بخيطان رفيعة غير مرئيّة، على طريقة الجاحظ في تحريك بخلائه. بهذا، يكون الكاتبُ الخالقَ الأجملَ، كما قال فلوبير في رسالة إلى إحدى صديقاته: «على الكاتب أن يكون تجاه عمله كإله تجاه الكون، حاضراً في كلّ مكان، لكنه لا يُرى في أي موضع».
السفير