فصل الصيف هو الأنسب للمطالعات والقراءات والتأملات. فاسترخاء العطلة الصيفية وطولها يحبذان ذلك ويدفعان إليه دفعاً. ولو سألني أحدهم عن قراءاتي هذا الصيف 2016 لأجبته بأني غاطس كالعادة في عدة كتب دفعة واحدة. أولها كتاب الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل: «متعة الفكر: مدخل إلى الفلسفة»، وكنت قد ذكرته بسرعة في مقالة سابقة دون أن أتوسع فيه. وهو كتاب ضخم يتجاوز الخمسمئة صفحة. ويشكل مدخلاً فعلياً إلى الفلسفة. وهذا هو عنوانه الثانوي وكان يمكن أن يكون الأساسي.
يضم في طياته نصوص كبار فلاسفة العالم منذ الإغريق وحتى يومنا هذا: أي منذ ألفين وخمسمئة سنة وحتى اليوم. فلا يمكن أن تصبح فيلسوفاً قبل أن تطلع على نظريات كبار الفلاسفة، كما لا يمكن أن تصبح شاعراً قبل أن تحفظ آلاف القصائد العبقرية أو تقرأها على الأقل.
معرفة المعرفة
يطرح المؤلف هذا السؤال: ما هي الفلسفة؟ وجوابه قد يدهشكم إذا ما ذكرناه. فهو يرى أن الفلسفة ليست علماً ولا حتى معرفة. يقصد ليست معرفة من جملة المعارف الأخرى. وإنما هي معرفة المعرفة أو علم العلوم. في القرون الوسطى كان علم الدين أو علم اللاهوت هو أم العلوم، وكانت الفلسفة خادمة طيعة له. وأما الآن فقد انعكست الأمور، على الأقل في الغرب المتنور العلماني. ولهذا السبب فإن الفيلسوف هو أهم مثقف في الغرب حالياً. أما رجل الدين فهو المثقف الأول عندنا وبطل الفضائيات! وهذا يعني أننا لم نخرج من العصور الوسطى بعد أو قل إننا مقسومون إلى قسمين: قسم الجماهير الفقيرة الأمية التي لا تزال تتبع رجل الدين وتنتظر فتاواه بصبر نافد وكأنها كلام معصوم، وقسم النخبة المثقفة التي خرجت قليلاً أو كثيراً من عقلية القرون الوسطى ودخلت في عالم الحداثة. على أي حال فإن الفيلسوف في كل عصر هو ذلك الشخص القادر على هضم كل المعارف واعتصارها والتوصل إلى حل مشكلة العصر بعدئذ. بهذا المعنى فالفلاسفة الكبار هم أنوار ساطعة تظهر من وقت لآخر لكي تبدد ظلمات العصور. عندما يظهر فيلسوف كبير تنفتح الآفاق المسدودة، تتوهج الدنيا. لماذا يشعر العرب بالهلع حالياً؟ لأنه لم يظهر فيهم حتى الآن فيلسوف قادر على تشخيص مشكلتهم، ناهيك عن حلها.
يقول لنا كونت سبونفيل: الحياة صعبة، وغالباً مخيفة أو خائبة، وأحياناً مرعبة وفجائعية، ولولا ذلك لما احتجنا إلى الفلسفة. ولكن ما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة أيضاً. والدليل على ذلك أن هيغل كان يعرّف الفلسفة على النحو التالي: إنها القبض على الواقع من خلال الفكر. ثم يضيف: الفيلسوف الحقيقي هو فيلسوف المشكلة الواحدة. لقد ظهر لكي يحل مشكلة العصر. وهو وحده القادر على ذلك. لا السياسي ولا رجل الدين ولا عالم الاقتصاد بقادر على تشخيص مشكلة العصر. وحده الفيلسوف مكلف بذلك. لهذا السبب فإن أبطال التاريخ هم الفلاسفة في الواقع. بعدئذ يجيء الأبطال السياسيون والعسكريون. بم يفتخر الإنسان اليوناني الحالي إذا ما افتخر؟ بسقراط وأفلاطون وأرسطو. كانوا منارات مشعة في عصرهم، بل وفي العصور اللاحقة. أرسطو هيمن على الفكر البشري عند العرب والأوروبيين مدة ألف وخمسمئة سنة.
بم يفتخر الفرنسي؟ بديكارت. بم يفتخر الألماني؟ بكانط وهيغل الخ..الفيلسوف على عكس المثقفين الآخرين جميعاً هو ذلك الشخص الذي يذهب إلى أعماق الأشياء ولا يتوقف في منتصف الطريق. آخر شيء يمكن أن تتهم به الفيلسوف هو أنه سطحي. قد يكون كل المثقفين سطحيين ما عدا الفلاسفة. الفيلسوف يحفر آركيولوجيا على أعماق المشكلة وينبشها من جذورها ويحررك منها.إنه «طبيب حضارات» كما قال نيتشه وبحق. عندما تمرض حضارة ما يظهر الفلاسفة الكبار. ولذلك فإن الفلاسفة قليلون في التاريخ أو نادرون جداً. ليس في كل يوم يظهر فيلسوف جديد! ولا حتى كل مئة سنة أحياناً.
مساءلات راديكالية
يقول لنا المؤلف: إن الفلسفة تعني التفكير بعمق حول الدين والسياسة والأخلاق وكل شيء. ولكن لا يمكن أن تتفلسف إلا في مجتمع يؤمن لك الحرية الكافية للتفكير. لهذا السبب يندر الفلاسفة في المجتمعات التي تسيطر عليها الحركات الأصولية ومحاكم التفتيش. ولهذا السبب أيضاً فإن معظم فلاسفة القرون الأخيرة ظهروا في الغرب لا في العالم العربي ولا الإسلامي. لا يوجد عندنا معادل لديكارت أو كانط أو هيغل أو هيدغر أو بول ريكور أو هابرماس الخ… يا ليت! توجد عندنا أيديولوجيات ومؤدلجون ديماجوجيون يعتقدون بأنهم ختموا العلم، في حين أنهم لا يرون إلى أبعد من أنفهم هذا إذا ما رأوا.. أبالغ قليلاً لتوضيح الصورة وأعتذر للمثقفين العرب الحقيقيين. وإذا ما صدف ونبغ عندنا أحد فينبغي أن يهاجر إلى بلدان الغرب فوراً. هناك تنتعش عبقريته ويترعرع فكره وينتج أبحاثه بكل حرية وطمأنينة. الفلسفة هي أن تعيش بالعقل لا بالنقل والتكرار والاجترار. والفلسفة هي تساؤل راديكالي عن جوهر الأشياء. ونحن ممنوع عندنا التساؤل. لماذا نتساءل إذا كنا نمتلك الحقيقة المطلقة والجواب النهائي؟ عن أي شيء سنتساءل؟ لماذا تضييع الوقت؟ ولذلك يقول لنا أندريه كونت سبونفيل: هناك فرق جذري بين الفلسفة من جهة/ والأيديولوجيا من جهة أخرى. الفلسفة لا تعترف بحقائق دوغمائية، نهائية، مطلقة، على عكس الأيديولوجيا. الفلسفة تساؤل مستمر وتوصل إلى حقائق نسبية أو مؤقتة. لو كان في الفلسفة حقيقة واحدة أو مطلقة لكفانا أفلاطون أو أرسطو. ولكننا نعلم أنه بعدهما ظهر ديكارت، وبعد ديكارت ظهر كانط، وبعد كانط ظهر هيغل، إلخ.. في كل عصر أو جيل يظهر فيلسوف جديد لكي يكشف مرض العصر، لكي يشخص العلة التي تنخر في أحشاء العصر. الجميع يلفون حولها ويدورون ولكن وحده الفيلسوف يراها. وحده الفيلسوف الكبير يستطيع التوصل إلى جوهر العصر، حقيقة العصر.
مهمة الفلسفة
ما هي مهمة الفلسفة؟ على هذا السؤال يجيب المفكر الفرنسي قائلاً: تعرية الأوهام المؤدلجة والأحكام المسبقة من طائفية وعنصرية، ثم تحرير العقل من الدوغمائيات المتحجرة. هذه هي وظيفة الفلسفة. والفلسفة معركة ضارية سلاحها العقل. ولكن من هم أعداؤها؟ الغباء والتعصب والظلاميات الدينية. من هم حلفاؤها؟ العلوم كلها من علم التاريخ إلى علم الاجتماع إلى علم النفس إلخ.. كل فيلسوف كبير كان مطلعاً على خلاصات هذه العلوم. بل وكان مطلعاً على خلاصات العلوم الدقيقة من فيزيائية وبيولوجية وفلكية. الفيلسوف موسوعي أو ينبغي أن يكون موسوعياً. أنظروا هابرماس في وقتنا الراهن. شيء مخيف! الفيلسوف ينبغي أن يكون أكبر مثقف في العصر لكي يستطيع أن يحل مشكلة العصر. وكما أن الطبيب لا يستطيع تشخيص المرض العضال بدقة إلا إذا كان نطاسياً كبيراً فكذلك الفيلسوف.
لماذا نقول بأن الفلسفة هي بالدرجة الأولى تساؤل؟ لأنها على عكس الأصولية الدينية والأيديولوجيا الشيوعية لا تمتلك بشكل مسبق حقيقة مطلقة، دوغمائية، معصومة. ولو امتلكتها لانتهى التساؤل منذ عهد سقراط وأفلاطون. لو امتلكتها لأجمع الفلاسفة على جواب واحد منذ بداية التاريخ وانتهى الأمر. فالواقع متشعب، غزير، لا يستطيع أي فكر أن يستنفده مهما عظم شأنه. وفي كل عصر تظهر مشاكل جديدة تتطلب فيلسوفاً جديداً. يضاف إلى ذلك أن الفلاسفة الكبار ليسوا مجمعين على رأي واحد بخصوص القضايا الكبرى. وبالتالي فهناك فلسفات بقدر ما هناك فلاسفة. ولا أحد يستطيع أن يفرض جوابه كحقيقة نهائية على الآخرين. ذلك أن الفلسفة ديمقراطية في جوهرها ومحتواها. إنها تؤمن بالحوار لا بالإلغاء والإقصاء على عكس العقليات الدوغمائية والمؤدلجة. أنظروا هابرماس الذي بنى فلسفته كلها على نظرية الفعل التواصلي الحواري بين الذوات العاقلة. ومن يقدم المحاجة الأنضج والأفضل والأكثر إقناعاً يستسلم له الآخرون عن طيبة خاطر. الفلسفة في جوهرها وعمقها ديمقراطية. ولذلك يكرهها كره النجس كل المستبدين في الرأي وكل الدوغمائيين المتحجرين. وتالياً لا يمكن أن تنجح الديمقراطية في ظل غياب تعليم الفلسفة. إذا ماتت الفلسفة ماتت الديمقراطية والحضارة كلها معها. لماذا انهارت الحضارة العربية الإسلامية ودخلنا في عصور الانحطاط الطويلة؟
ماهية الفلسفة
ما هي الفلسفة؟ الأجوبة عديدة بتعدد الفلاسفة الكبار. جواب أرسطو غير جواب أستاذه أفلاطون. وجواب ديكارت غير جواب كانط. وإن كان الجميع يلحون على أهمية العقل. بعد أن نقرأ مؤلفات الفلاسفة الكبار يحق لنا أن نتفلسف بأنفسنا ولكن ليس قبل ذلك. لهذا السبب فإن أندريه كونت سبونفيل يستعرض لنا في هذا الكتاب الضخم آراء الفلاسفة بالقضايا الكبرى المطروحة على كل المجتمعات البشرية: أي قضية الدين، وقضية الأخلاق، وقضية السياسة، وقضية الحرية، وقضية العدالة، الخ.. وعندما نقرأ أجوبة الفلاسفة الكبار على هذه القضايا نصاب بالعجب العجاب.إنها ليست متوافقة ولا متطابقة وإنما متشعبة ومختلفة وأحياناً متناقضة. وهنا يكمن سر الفلسفة، وغنى الفلسفة، وعظمة الفلسفة. كل فيلسوف يكتشف جزءاً من الواقع أو وجها من وجوه الحقيقة. ثم يجيء فيلسوف جديد ويكتشف الوجه الآخر، وهكذا دواليك.. وعندما نقرأ أجوبتهم كلها نستطيع التوصل إلى فكرة أكثر وضوحاً وتكاملاً وشمولية عن القضايا المحورية المطروحة.
ولهذا السبب قسم المؤلف كتابه إلى اثني عشر قسماً هي: الأخلاق، والسياسة، والحب، والموت، والمعرفة، والحرية، والدين أو الله، والإلحاد، والفن، والزمن، والإنسان، والحكمة. وكل قسم قدم له مقدمة وجيزة قبل أن يعطي حق الكلام لكبار الفلاسفة. ما رأي الفلاسفة بالحرية؟ أو بالموت؟ أو بالدين؟ أو بالأخلاق؟ أو بالسياسة؟ الخ..
اقرأوه، تجدون إضاءات رائعة لا مثيل لها. إنها توسع آفاقكم وتجعل أفكاركم أكثر نضجاً وعمقاً. هذا ما حصل لي أنا شخصياً.
خراب الروح
يرى الكاتب الشهير رابليه أن «علما بلا أخلاق (أو بلا ضمير) خراب للروح»، وأما سبينوزا فيرى أنه «ينبغي أن نتغلب على الحقد بالحب والكرم»، وهو ما يذهب إليه القديس أوغسطين أيضاً:
أحبَ وافعل ما تشاء..
فالحب هو جوهر الوجود. ومن يفعم الحب قلبه لا يعود يتسع لشيء آخر.
لا فلسفة بلا أخلاق
يعتبر كانط فيلسوف الأخلاق بامتياز. وبالنسبة له لا معنى لأي فلسفة من دون أخلاق. وجوهر الدين نفسه هو الضمير والأخلاق والمعاملة الحسنة. فلا يكفي أن تصلي وتصوم لكي تحظى بمرضاة الله وجنته يوم الحساب. ينبغي أن تكون أمينا في عملك مخلصا لواجبك فاعلا للخير بقدر المستطاع. ويرى هذا الفيلسوف الكبير أن الإرادة الطيبة هي جوهر الأخلاق وهي أغلى شيء في الوجود. وبالتالي فالطيبة التي يتمتع بها بعض الناس هي قمة الأخلاق وهي أساس العطاء والبناء الحضاري. يكفي أن نقارن إنسانا مفعما بالطيبة وحب الخير بإنسان آخر شرير سيئ الطوية لكي ندرك معنى تركيز كانط على الإرادة الطيبة.