*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي
ديفيد معلوف David Malouf ( اسمه الكامل ديفيد جورج جوزيف معلوف ) : روائي وشاعر مولود عام 1934 في مدينة بريسبين بمقاطعة كوينزلاند الأسترالية لأب لبناني وأم بريطانية ، وقد سبق لعائلة أبيه أن هاجرت إلى أستراليا في ثمانينات القرن التاسع عشر . تعكس أعمال معلوف خلفيته الإثنية وكذلك طفولته وشبابه في مقاطعة كوينزلاند الأسترالية ، ويمكن وصف رواياته بأنها روايات ( جغرافيا المكان وتضاريسه ) إلى جانب الكشف عن التأثير الحاسم الذي يلعبه المكان في النشاط الإنساني والإبداعي بخاصة .
الآتي هو القسم الثاني من حوار شامل مع معلوف ظهر في مجلة ( BOMB – Artists in Conversation ) خريف عام 2007 ، وأدار الحوار ( كولم تويبن Colm Toibin ) وهو روائي إيرلندي معروف بأعماله الروائية المهمة إلى جانب أعماله في حقل القصة القصيرة والشعر والمسرح والنقد الأدبي كما يكتب الأعمدة الصحفية في عدد من الصحف المميزة .
المترجمة
* لكن هل يتفق هذا مع حقيقة أن إحدى الاختلافات التي تبدو جوهرية بين أستراليا والولايات المتحدة في القرن التاسع عشر هي عدد الكتب المستوردة من إنكلترا ، وتتقافز تلك الحقيقة في كتابك ( روح اللعبة ) الذي ذكرتَ فيه أن ثلث عدد الكتب المنشورة في بريطانيا عام 1870 كان يُصدّرُ إلى أستراليا ؟
– لطالما كان الأستراليون قرّاءَ نهمين على الدوام ، وإن معظم الأستراليين – كما تعلم – كانوا مثقفين بشكل مقبول ويتقنون القراءة والكتابة في الحقبة التي تسأل عنها وكانت هذه ميزة إضافية لهم عن المناطق التي هاجروا منها ، وقد جعلت هذه الميزة الكتب تبدو شيئاً مثيراً وباعثاً على الدهشة بنظرهم دوماً ، ولكن من جانب آخر لو آمنتَ أن العالم المعروض في الكتب هو العالم الحقيقي فإن تجربتك في المكان الذي تعيش فيه – والتي لايمكن أن ترقى إلى تجربة المكان التي نختبرها من قراءة الكتب بأي حال من الأحوال – ستبدو على الدوام غير جيدة وغير جديرة بأي اهتمام . تطلّب الأمر وقتاً ليس بالقصير أبداً لكي يوقن الأستراليون أن الحياة الواقعية ليست حياة تجري وقائعها في مكان بعيد عن المكان الذي يعيشون هم فيه .
* هل يمكنك إخبارنا شيئاً عن تلك السنوات التي قضيتَها في إنكلترا ثم في إيطاليا لاحقاً ، وما الذي عنته لك تلك السنوات ؟
– تركتُ مدينة بريسبين التي نشأت فيها وأنا بعمر الرابعة والعشرين . حصل ذلك عام 1959 – العام الذي حطّمت فيه الوثاق الذي يقيّدني في تلك المدينة : لم يكن بوسعي الشعور هناك بأن أياً ممّا أعمله مناسب لي في أجواء الإمكانيات المحدودة المتاحة أمامي ، لذا عزمتُ على الذهاب إلى إنكلترا والبقاء هناك حتى عام 1968 مع سفرات قصيرة إلى الوطن تخللت تلك الفترة . عدتُ أدراجي إلى أستراليا في لحظة تأريخية مثيرة للغاية لأن عام 1968 كان مهماً للأستراليين بمثل أهميته في كل مكان آخر في العالم لأنه مثّل إيذاناً بانطلاق كل أشكال الثورات الاجتماعية والجنسية والسياسية . كنت حتى عام 1978 قد نشرت روايتين وبعض المجموعات الشعرية ، وعقدت عزمي حينذاك على ضرورة الذهاب إلى مكانٍ ما يمكنني فيه المكوث بهدوء والانصراف الكامل إلى الكتابة ؛ وهو الأمر الذي تحقق فعلاً وذهبت أول الأمر إلى إيطاليا واشتريت منزلاً هناك بقيمة ثمانية آلاف دولار ( هي مبلغ تقاعدي عن مهنة التدريس ) ومكثت في ذلك المنزل عشرة شهور متصلة في كل سنة من السنوات الست اللاحقة وهذا ما أتاح لي الفرصة لكتابة خمسة أو ستة كتب في تلك السنوات .
* لابدّ أن عملك خلال تلك السنوات كان شاقاً؟
– نعم كان عملاً شاقاً لكني أراه اليوم وقتاً طيباً في حياتي : كنت وحيداً على نحو متطرف رغم أنني وجدت بالطبع بعضاً ممّن اتخذتهم أصدقاء لي في القرية التي مكثت فيها خلال تلك السنوات . كنت منعزلاً للغاية هناك وابتعدت بشكل كيفي عن كل مايمت إلى الإنكليزية بصلة ما ( فيما عدا أن صديقتي المفضلة في القرية كانت إنكليزية ! ) وأخرجت نفسي عامداً من المشهد الأدبي السائد . ثمة الكثير من الوقت المتاح لك للكتابة وسط هذه البيئة وبخاصة في باكورة شروعك بالكتابة عندما لاتريد أن ترى أياً من المراقبين المتطفلين واقفاً فوق كتفيك وهو يراقب ماتكتب ولاينفك يخبرك ما الذي يتوجّب عليك أن تكتب وأن لاتكتب !
* تبدو كتبك متباينة في موضوعاتها ولكن لو طُلِب إليّ إيجاد خيط رفيع يجمعها معاً لكان البراءة – براءة ماقبل اليفاعة ، براءة ماقبل البلوغ ، براءة من لم يعرف شيئاً في حياته عن أهوال الحرب ،،،، وفي سياق كتبك يبدو واضحاً أنك تميل لتحطيم هذه البراءة أو وضعها في سياق درامي يجعلها تتلمس سبيلها نحو المعرفة او المعاناة . هل يمثل لك هذا شيئاً ذا قيمة استثنائية ؟
– نعم بالتأكيد ، ولكنك تعلم أن من الصعوبة القصوى أن يعلم أي كاتب بحقيقة مايفعله لأن ذلك أمر شديد الخصوصية ويتغير تبعاً لكل كاتب . أنت محق تماماً : في معظم كتبي ثمة شخصية مركزية تعاني شكلاً من أشكال الاختلال أو الاضطراب يمكنك أن تسميه فقدان البراءة أو فقدان الذات الذي تعمل تلك الشخصية مابوسعها للشفاء منه بغية إضفاء التكامل على حياتها ، ولكن ثمة شيء آخر : زلزلَتْ كياني عبارة كنتُ قرأتُها قريباً من خاتمة عملك المسمى ( الأستاذ The Master ) يقول فيها ( هنري جيمس ) أن كل مايتوجّب عليه عمله ككاتب هو أن يجعل العالم يبدو حياً وأكثر غرابة عمّا قبل . أعتقد أن كل ماعملته أنا ككاتب وعلى الدوام هو الخوض في تفاصيل حالة عادية أو معهودة للجميع وإعادة النظر فيها محاولاً اكتشاف الغرابة أو الأحجية الكامنة فيها والتي لانراها عادة من خلال التحديقة العابرة ، وعوضاً عن اتباع ثيمة مقررة فإن ما أعمله – كما أظن – هو استكشاف طبيعة الأحجية الكامنة في كل أمر غريب نلمحه في الحياة . ألا يبدو لك هذا عملاً مؤثراً وذا قيمة استثنائية ؟
* هلا ألقيتَ لنا ضوءاً كاشفاً على التجربة الأسترالية في الحرب العالمية الثانية والتي تناولتَها فـي عملين من أعمالك: (جونو) و(العالم العظيم)؟
– إن مايحصل حولك وأنت لما تزل طفلاً يلقي بتأثيره العظيم عليك وبخاصة تلك الحوادث التي تحصل في عالم تسمع عنه فحسب ولم تتح لك رؤيته بعد . لابد أنني كنت بعمر السادسة عندما سمعت أن سفينة محملة بأطفال لاجئين من إنكلترا استهدفتها قذيفة طوربيد ألماني ودمّرتها وهي في طريقها إلى الولايات المتحدة ، ولازلت أذكر لحظة سماعي لهذا الخبر والتي غدت لحظة مفصلية في كل حياتي بعد أن أدركت وللمرة الأولى أن ثمة ظروف يمكن أن تمرّ بي ويكون فيها أمي وأبي عاجزين تماماً عن توفير الحماية المطلوبة لي . هذه واحدة من أنواع التجارب الكثيرة التي يمكن أن يختبرها طفل وسط ظروف حربٍ لم تأذن بخاتمتها بعد ، ومن المؤكد أن تجربتي مع الحرب العالمية الثانية تختلف اختلافاً جوهرياً عن نظيرتها مع الحرب العالمية الأولى لأنها في الحالة الثانية ماكانت سوى حكاية معروفة الخاتمة بين الحكايات الكثيرة التي أسمعها ، أما في الحرب العالمية الثانية فكانت تجربتي مختلفة كلياً لأنها كانت قصة لم تبلغ خاتمتها بعد ، وما هو أشد قساوة في الأمر أنها قد تنتهي على نحو بالغ السوء والضراوة . كان الأمر آنذاك تشويشاً كاملاً ونحن غارقون وسط طوفان نشرات الأخبار المسائية والشائعات واستحالت مدينتي ( بريسبين ) التي كنت أعيش فيها حينذاك الى معسكر مترامي الأطراف لأنها كانت نقطة الانطلاق لكل المقاتلين في حرب الباسيفيكي ، وكانت المقرات العليا للجنرال ( ماك آرثر ) على مبعدة امتار من منزلنا وفي رأس الجادة التي يطل عليها منزلنا . تصوّرْ أن سكان ( بريسبين ) ماكانوا يتعدون آنذاك الأربعمئة ألف نسمة ولكن في كل يوم من أيام السنوات الثلاث بين 1942 – 1945 كان مالايقل عن مئتي ألف من الجنود مُعسكِرين بشكل دائمي في مدينتنا لذا كنا آنذاك مسكونين بفكرة أننا لانبعد كثيراً عن الخطوط الأمامية لجبهات الحرب .
* تحدثتُ إلى بعض الأشخاص الذين كانوا من بين الحضور في إحتفالية حصولك على جائزة ( Prix Femina Étranger ( في باريس . كان هؤلاء يتوقعون منك أن تتحدث في كلمتك أثناء الإحتفالية بشأن أستراليا ولكنك – على العكس من التوقعات – استحضرت روح فرنسا في القرن التاسع عشر وتحدثت كما لو كان ( بلزاك ) و ( زولا ) و ( فلوبير ) أسلافك الأمجاد . ما الباعث الذي جعلك تتحدث آنذاك وكأن شعوراً يغمرك بأن فرنسا هي بلدك الأم ؟
– كنتُ آنذاك مفتوناً إلى أبعد الحدود بالعمل الرائع الذي أنجزه مترجم عملي ( العالم العظيم ) إلى الفرنسية ، وأنا – كما تعلم – أتقن الفرنسية وقد غمرني شعور جارف أثناء قراءتي للترجمة الفرنسية لعملي ذاك الذي سعى فيه المترجم ومن غير وهن لأن يجد كتابي مكانه اللائق به في الأدبيات الفرنسية ، وهكذا منحني المترجم فرصة عظيمة ماكان بوسعي الحصول عليها لو أنجزت العمل بمفردي سواء بكتابة الكتاب بالفرنسية أصلاً أم بترجمته إلى الفرنسية لاحقاً . أرى أن الترجمة الفرنسية لعملي والتي أجادها المترجم أيما إجادة كانت خلقاً حقيقياً أو لنقل ( ولادة ثانية ) للعمل وهو ما أدهشني كل ذلك الإدهاش الذي عبّرت عنه في كلمتي أثناء الاحتفالية .
* ولكن لِمَ كل هذا الاندهاش وقد جاءت الترجمة متماشية مع سياق التقاليد الأدبية الفرنسية التي تحوز أنت معرفة عميقة بأصولها ؟
– الأدبان الروسي والفرنسي هما الأدبان الوحيدان ( خارج منطقة الأدب الإنكليزي بالطبع ) اللذان شعرت بقربي العظيم منهما دوماً . رسّخ الأدب الروسي حضوره متأخراً في المشهد الأدبي العالمي وكان على كتّابه أن يخلقوا أدباً جديداً مستعينين بمشهديات تضاريسية غير معتادة لهم ، وبقدر مايتعلق الأمر بهذه الجزئية بالذات فإن أستراليا – مثل أمريكا – تعلمت الكثير من هؤلاء الكتّاب الروس العظام ، ولكن تظل الحقيقة قائمة وراسخة بشأن أن الأدب الفرنسي هو ما أجد نفسي بالكامل فيه بعد أن تشرّبتُ أعماله ابتداء من ( بلزاك ) وحتى ( بروست ) بل وحتى إلى ماقبل هؤلاء – إلى كتّابٍ عظام من أمثال ( ديدرو ).
___
*المدى