الغـابة


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
تهنا في الغابة التي يرتادها السيّاح في الخريف. 
كنا نمشي، أنا والبنت القادمة من إفريقيا ونحن نتأمّل جمال الغابة، ولم نلحظ تأخّرنا غير المقصود عن الفريق، الذي كان أفراده يقطعون الطريق بسرعة غير مألوفة. قالت وهي تنتبه فجأة إلى أننا أصبحنا وحدنا: ابتعدوا عنا. قلت وأنا أتلفّت نحوهم: فعلاً، ابتعدوا عنا. واصلنا السير بثقة ليس لها حد، فالطريق أمامنا ممتد، وسيقودنا، لا محالة، إلى المكان الذي انطلقنا منه أصلاً، سنجد أفراد الفريق في انتظارنا هناك، فإذا لم نصل في الوقت المتوقّع لوصولنا، فسوف يهبّون إلى البحث عنا، إذ لا يعقل أن يتركونا لنضيع في الغابة.
خيّم علينا الصمت لحظات. أنا أتمعن في هواجسي الداخلية، ولا أدري إن كانت هي الأخرى تتمعن في هواجسها الداخلية. (أوحت لي نرجسيتي بأنها تفكر بي الآن!) ضحكتْ لمغالبة الحرج الذي تشعر به كما يبدو، ضحكتُ لتشجيعها على مزيد من الضحك. 
توقفنا فجأة، ظهرت في عيوننا حيرة محبّبة. الطريق يتشعّب إلى عدّة طرق، وعلينا أن نختار الاتجاه الصحيح الذي يعيدنا إلى المكان الذي انطلقنا منه. تردّدنا بعض الوقت، ثم اخترنا طريقاً ظننا أنه هو طريقنا، سرنا فيه زمناً. اقترب منا رجل وامرأة، يدها في يده، سألناهما عن الطريق. لم نعثر في إجابتهما على ما يشفي الغليل، ابتعدا عنا وهما على الحالة نفسها: يدها في يده، قرّرنا السير في الاتجاه المعاكس لهما. لم يخطر ببالي أن أقبض على يدها، (قد لا يروقها ذلك) ويبدو أنه لم يخطر ببالها أن تضع يدها في يدي، لأننا تهنا في الغابة على نحو غير مقصود، لذلك بقينا نسير الواحد منا بمحاذاة الآخر، وحينما يضيق الطريق، كنت أفسح لها في المجال لتسير هي أمامي، وأسير أنا خلفها. 
توقّفنا مرّة أخرى، قالت إننا كنا هنا من قبل، وهذا يعني أن علينا السير في الاتجاه الذي سارت فيه المرأة والرجل. سرنا في ذلك الاتجاه، مثلهما تماماً، مع فارق واحد هو أن يدها كانت في يده، ولم تكن يدها في يدي. وجدت نفسي أقبض على يدها وليكن ما يكون. لم يبدر منها أي ردّ فعل سلبي. وضعت يدها مثل عصفورة لاهثة في يدي، وسرنا معاً. قالت: سأغني. قلت لها: خيراً تفعلين، وبذلك يسمعنا أفراد الفريق، فيعرفون أننا في الطريق إليهم. انطلقت تغني بصوت رنان، ردّدت جنبات الغابة أصداءه. 
حين وصلنا المكان، وجدنا بعض أفراد الفريق يغطّون في نوم عميق، عرفنا أن بعضهم الآخر انطلقوا يبحثون عنا، فلم يعودوا حتى الآن، ما يشير إلى أنهم يفعلون ذلك على نحو مقصود. وهو ما شجعني أنا والبنت السوداء الجميلة التي أصبحت زوجتي فيما بعد، على العودة إلى الغابة، على نحو مقصود هذه المرة، للبحث عمّن لم يعودوا حتى هذه اللحظة من أفراد فريقنا، الذي انقسم إلى فرق عديدة، تتوغّل في أعماق الغابة، ولا تخرج منها إلا لتعود إليها من جديد.
_______
*روائي وقاص فلسطيني 
من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

شاهد أيضاً

كأس وظلال

(ثقافات) كأس وظلال عبد القادر بوطالب تلك الظلال التي طوت تفاصيل أجفاني سارت خلفي ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *