شكسبير لكل الأزمنة


*د. حسن مدن


جاء ونستون تشرشل في المرتبة الثانية في استفتاء أجرته هيئة الإذاعة البريطانية بين المواطنين الانجليز، قبل سنوات، حول أهم الشخصيات البريطانية في الألفية الثانية بعد شكسبير الذي احتل وبدون منازع المرتبة الأولى، أما المرتبة الثالثة فكانت من نصيب وليام كاكستون الذي كان وراء أول نسخة من الكتاب المقدس تصدر باللغة الانجليزية.
ولاحظ المشتغلون في حقول الرياضيات والعلوم الطبيعية باستياء وامتعاض أن المراتب الثلاثة الأولى خلت من أي من علماء الطبيعة المرموقين الذين قدمتهم بريطانيا للعالم وفي مقدمتهم نيوتن الذي كان لاكتشافه قانون الجاذبية أبلغ وأعمق الأثر في تطور العلوم.
وعبر بعض كبار العلماء عن استيائهم من أن شكسبير بالذات جاء في المرتبة الأولى ولم يأت نيوتن أو داروين مثلاً، وقال أحدهم إن جل ما فعله شكسبير هو أنه أخبرنا عن أشياء نعرفها سلفاً ولكن بلغة بديعة وجميلة، أما علماء الطبيعة من طراز ومستوى نيوتن فقد غيروا من نظرتنا للعالم ومن طرائق تفكيرنا. وفيما لم يجد البعض الآخر ما يكفي من الشجاعة في الاعتراض على مجيء شكسبير في المرتبة الأولى فإنه تمنى لو جاء في المرتبة الثانية نيوتن مثلاً حتى يكون هناك رجل فكر ورجل فعل.
هذه الاختيارات تدفعنا لتحري الأسباب التي تدفع الناس إلى اختيار أولئك الرجال، أو النساء، الذين يتصل حقل إبداعهم أو عبقريتهم بالعالم الروحي للإنسان في العصر الذي نصفه بأنه عصر التقنية والآلة والحاسبات الإلكترونية والكمبيوتر.
نحن نعلم أن الشكوى تزداد من «تشييء» عالم الإنسان وتخريب روحه، وثمة هجوم واسع، علني ومضمر، على تلك الحقول التي تتصل بالجانب الروحي كالشعر والرواية والفنون عامة، رغم كونها الحقول التي تحقق التوازن الضروري للبشرية في عصرٍ يغدو فيه كل شيء مادياً واستهلاكياً، دون أن يكون قصدنا هنا أي تقليل من أهمية انجازات الاكتشافات المهمة في حقل العلوم الطبيعية التي لولاها لما حققت الفلسفة والفنون الشأن الذي بلغته.
لكن يبدو أن الناس، حتى في أكثر المجتمعات المعاصرة تقدماً واعتماداً على التقنية، ما زالت تهفو لطفولتها وبراءتها وعذوبتها التي جُبلت عليها، وهي، على ما يبدو، الفضاءات التي تجعل سونيتات شكسبير البالغ عددها مائة وأربع وخمسين قصيدة حب، أكثر خلوداً وحضوراً في ذاكرة الناس من جاذبية نيوتن.
ما سر تلك الحال من الاستغراق والمتعة التي تنتابنا ونحن نعود المرة تلو المرة لشكسبير . كيف لا نمل نصوصا قرأناها عدة المرات، وكيف نكتشف فيها في كل مرة جديداً، وكيف يعطينا العمر عدة إضافية لنتعرف على شكسبير أكثر، ولنرى في أدبه شيئا لم نره من قبل، وما شأن تلك الدهشة التي تنتابنا إزاء طوفان البلاغة الشكسبيرية، حسب تعبير كارل ماركس، الذي يجتاحنا في كل مرة نعود فيها لتلك العبارات التي ربما نكون قد حفظناها عن ظهر قلب لكثرة ما رددناها ولكثرة ما رأيناها على المسرح وفي السينما؟
أي طاقة من السحر والغموض تنتاب أدب هذا العملاق الذي عاش منذ قرون، فنقراه كأننا نقرأ أديباً من معاصرينا، ولنرى انه كان يتكلم عنا، يصفنا ، يغوص في أعماقنا الدفينة ويقول ما نحسه ولكننا نعجز عن وصفه. كيف يعرف هذا الرجل الذي عاش في زمن غابر أكثر مما نعرفه نحن عن أنفسنا، وكيف يُشخص فرحنا وحزننا وأسانا وغيرتنا وحبنا وكرهنا وإقدامنا وترددنا، وكيف يمسك بمبضع جراح على مكامن القوة والضعف في ذواتنا. حتى وهو يمسك بفكرة جوهرية، رئيسية واحدة في نصه المسرحي هذا أو ذاك، يقدم لنا نسيجا من الأفكار.
يمكن لجملة حوارية واحدة على لسان أحد شخوصه أن تجسد حالا إنسانية بكاملها. وكيف تتركز في شخوصه المسرحية الواقفة بشموخ على خشبة المسرح كل ذرات النفس الإنسانية في كل ما تنطوي عليه من تفاصيل معقدة ومن تأملات عميقة حول الحياة والحب والمو ، وحول الإنسان ذاته ككائن ما انفك يتحدث عن نفسه ويصارعها.
عبثا نبحث عن زمن شكسبير في الذي كتبه، وحتى لو أمسكنا هذا الزمن بالفعل سنكتشف بعد حين مقدار الخديعة التي وقعنا فيها، فشكسبير حتى وهو يكتب لزمنه، كان يكتب لأزمنة قادمة، ربما لأنه لم يغرق في الآني والطارئ والعابر والوقتي، وإنما ذهب إلى سحر الخلود وسره، ربما أيضا لأنه أدرك أن النفس الإنسانية في تمزقاتها الكبرى هي نفس واحدة في كل العصور، وهو إذ يفعل ذلك يحثنا على عدم السكينة والاطمئنان للأمر الواقع.
انه يزج بنفوسنا وعقولنا في أتون الأسئلة الكبرى المحيرة كي لا نستكين ولا يهدأ لنا بال، محرضا كل عضلات قلوبنا على النبض السريع وكل خلية من خلايا أذهاننا على العمل، كأنه يقول أن خلف حياتنا هذه بالإمكان أن تكون هناك حياة أفضل، وان الطريقة التي نعيش بها ليست هي بالضرورة الطريقة المثلى. انه يستفز في دواخلنا البلادة والركون إلى اليقين والثابت.
ما يشدنا إلى مسرحية «هاملت» ليس فقط تلك العبارة الشهيرة التي أضحت مثلاً أو قولاً مأثوراً: «نكون أو لا نكون.. ذلك هو السؤال»، وإنما أيضاً ذلك التوصيف العميق لحالة التردد العنيف التي تنتاب البشر حين ينوون الإقدام على قرار معين، خاصة إذا كان لهذا القرار طابع مصيري يحدد مجرى حياتهم. فقد أراد شكسبير اختبار هذه الحالة من التردد عبر شخصية الأمير الدنماركي «هاملت» الذي كان عليه أن يثأر لمقبل أبيه بقتل عمه. كان شبح أبيه يناديه دوماً بالإقدام على الثأر، لكنه في كل مرة يوشك فيه الفعل سرعان ما يتراجع مأسوراً بتردده.
حتى أكثر الناس إقداماً أو تهوراً أو رعونة لا يستطيعون الزعم أن دواخلهم لا تنطوي على مقدار من التردد، وأن زعموا ذلك فإنهم يكذبون.. التردد صفة ملازمة للبشر، معطاة لنا بالفطرة. بالطبع هناك فروقات بين الأفراد، البعض يكون التردد عندهم مَرضياً، ينم عن هشاشة في الشخصية وضعف فيها، والبعض منهم يكون الإقدام عندهم أشبه بالتهور والرعونة، والبعض يكونون أميل إلى التوازن، إنهم يعيشون حالة التردد لفترة قبل أن يرسوا على قرار، فما أن يتخذوا هذا القرار فإنه ما من قوة قادرة على إثنائهم عن الإتيان بما نووا عليه، لأن الإنسان السوي لا يمكن أن يظل متردداً كل الوقت، فهو في النهاية مطالب بالحسم أو معني به.
كتب شكسبير مسرحيته: «هاملت» بعد عام واحد من وفاة والده. أي في غمرة مشاعر الفقد، حيث وطاة الحزن في أشدها. ليس هذا فحسب. كان لشكسبير نفسه ولد مات مبكرا اسمه هامنت، أي ما يكاد يقارب الإسم الذي أطلقه على مسرحيته.
أكان شكسبير، وهو يكتب المسرحية، يكتب حاله النفسية، خاصة في الجزء المتصل منها بالعلاقة المعقدة بين الإبن وأبيه. هذا ما ذهب إليه بعض النقاد الذين عالجوا الموضوع، من واقع بنية وحكاية «هاملت». وهذا بالذات ما شغف عالم النفس الشهير فرويد بهذه المسرحية، التي أولاها عناية خاصة في دراساته، وهو يسعى لسبر غور النفس البشرية بما تحمله من عقد وتناقضات، وسيؤسس ذلك لدراسات لاحقة في اعتماد علم النفس منهجاً في دراسة الأدب.
يتساءل فرويد: لماذا يتردد فرويد في إنجاز المهمة التي أوكلها اليه أبوه حين زاره في المنام بعد موته مُوصيا إياه بقتل عمه. وفي مقالة قديمة لي أشرتْ إلى أن «هاملت» كما رسمه شكسبير لم يكن شخصاً ضعيفاً أو جباناً، لكنه لم يقدم على القتل. كان قوياً وشجاعاً ونبيلاً، لكنه كان متردداً. لعل شكسبير كان يريد القول إن التردد ليس دلالة الضعف أو الجبن أو اهتزاز الشخصية، إنما دلالة ذلك التمزق العميق الذي يطبع شخصية الإنسان، أي إنسان، ففي داخل كل منا «هاملت» يشبه ذلك الذي رسمه شكسبير. في لحظة من لحظات كل منا، في مرحلة من مراحل حياة كل منا لا بد أننا كنا مترددين.
لكن فرويد لا يذهب إلى هذا الرأي، فهو المأخوذ بفكرته حول «عقدة أوديب» يرى أن هاملت لم يقتل عمه بسبب أن هذا العم قد جسد عقدته الأوديبية في «موت» الأب. ودارسو فرويد يعرفون أنه وضع نظريته، مستنداُ إلى تجربته في الشهور التي تلت وفاة والده شخصياً، ليرى أن شكسبير سبقه في «هاملت» في مقاربة الموضوع. من وجهة نظره فان شكسبير حالم لم يخضع للتحليل النفسي، ولكنه عبر عن ذلك عبر مسرحياته الشعرية، أما هو شخصياً، أي فرويد، فقد تحول إلى شكسبير أخضع لهذا التحليل النفسي.
أيكون الأدب سابقاً للتحليل النفسي. هذا مالا ينفيه فرويد نفسه، ليس فقط حين درس نصوص شكسبير، وإنما أيضاً روايات ديستوفسكي التي مكنته إصابته بمرض الصرع بلوغ مناطق في النفس البشرية لا يبلغها «الأصحاء».
______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *