شكسبير إلى الأبد؟


حبيب سروري


بين شكسبير وعالَمِنا المعاصر علاقةٌ عضويةٌ جذريةٌ مثيرة. لا يوجد شعبٌ لا يحاول “تأميمَ” شكسبير بشكلٍ أو بآخر. 
يقول الفرنسيون مثلاً إنهم أقرب إليه من الإنجليز: لا تتوقّف في فرنسا إعادة ترجمة شكسبير وتحليله ودراسته والاستلهام منه وإخراج مسرحياته. يكفي، على سبيل المثال، متابعة كثرة حضوره في مهرجان المسرح في أفينيون طوال تاريخه. 
ثمّة من يدعي زوراً بأن شكسبير يهوديّ. وللعرب محاولة سطوهم أيضاً: “شكسبير عربي واسمه الأصلي: الشيخ زبير، قبل تحريف اسمه من قبل الإنجليز!”. لم تُنسب هذه المقولة لِجحا، الذي مات قبل ولادة شكسبير، لكن لمعمّر القذافي. 
بين شكسبير ومهرجان المسرح في أفينيون علاقةٌ استثنائيةٌ حميمة. 
ذاكرتي الشخصية مع هذا المهرجان تبدأ بهِ تحديداً: نقلنا الباص، في 10 يوليو/ تموز 1977، من معهد تدريس اللغة الفرنسية في مدينة فيشي الفرنسية التي وصلتُ إليها طازجاً من عدَن، إلى قصر البابوات في أفينيون على بعد مئات الكيلومترات، لمشاهدة هاملت، من إخراج بينو بيسون. لم أستوعب حينها من العرض إلا شذرات، لكنه ترك قنبلة عشقٍ موقوتة، فعلت فيّ فعلها بعد ذلك بسنين. 
بدأ أول مهرجانات أفينيون، في 1947، بمسرحية ريتشارد الثاني، من إخراج فيلار، مؤسّس مهرجان أفينيون، الذي أدّى دور ريتشارد هو نفسه. ولم يمر عامٌ واحد من دون أن يكون شكسبير في طليعة برنامج المهرجان. 
ما زالت في الذاكرة مثلاً مسرحية هنري السادس، من إخراج توماس جولي، العام االماضي 2014: دام عرضها 18 ساعة، قُدِّم خلاله النص الشكسبيري كاملاً: 10000 بيت شعر، واحد وعشرون ممثلاً، وثلاثمائة دور. 
وفي هذا العام 2105، يرفرف شكسبير في علياء أهم عروض المهرجان بثلاثة من أهم مسرحياته: الملك لير، من إخراج الفرنسي أوليفيه بي (رئيس المهرجان) في قصر البابوات؛ ريتشارد الثالث، من إخراج الألماني توماس أوسترمايير (المدير الفني لمسرح برلين) في أوبرا أفينيون؛ أنطوان وكليوباترا، من إخراج البرتغالي تياغو بورتوغيز (المدير الفني الجديد للمسرح الوطني، ليشبونة). 
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا هذا اللهاث المجنون وراء شكسبير، الذي سيحتفل العالَم، العام القادم، بمرورأربعمائة عام على رحيله؟ 
سيجيب عن هذا السؤال ثلاثة من كبار المخرجين الدوليين، في إحدى ندوات “معمل الفكر” الذي تتجدّد نشاطاته طوال المهرجان: دانيل ميسغيش، الذي أخرج عشر مسرحيات شكسبيرية؛ أوليفيه بي، رئيس مهرجان أفينيون، الذي أخرج أخيراً: الملك لير؛ وتوماس أوسترمايير، الذي أخرج خمس مسرحيات شكسبيرية، ما قبل الأخيرة منها: هاملت. 
أخرج أوسترمايير أيضاً فيلماً بعنوان: “هاملت في فلسطين” صُوِّر في فلسطين، وعرض في 14 يوليو/ تموز 2013، يوم الثورة الفرنسية، في أفينيون. حبك فيه بذكاء تزاوجاً فنيّاً بين تراجيديا هاملت وتراجيديا الشعب الفلسطيني. واستخدم الفن كسلاح لِكشفِ حقيقة مقتل صديقه الفلسطيني جوليانو خميس، الذي أرسل له دعوة لعرض هاملت في مسرح الحرية بجنين، في فلسطين. لكنه اغتيل قبل أن يلبي أوسترمايير الدعوة. سؤالُ: “من قتل خميس؟” تحوّل في الفيلم إلى سؤال أوسع: “من يقتل الفلسطينين؟”. 
هنا شذرات من إضاءات هؤلاء المخرجين الكبار على سرِّ ديمومة شكسبير في واجهة المسرح العالمي: يتفق ثلاثتهم على أن “شكسبير معاصرنا” بامتياز، كما قال عنوان كتاب يان كوت، إذ استوعب شكسبير كلّ ملامح عالمنا المعاصر، وتنبأ بها: الديكتاتوريات، العبث، الاضطراب الجذري الحالي.. فضلا عن أن مواضيع شكسبير الرئيسة: الحبّ والموت والسلطة، هي مواضيع الإنسان الرئيسة. 
“لا نهاية لعطاء شكسبير”، يقول المخرج المسرحي الكبير بيتر بروك. ويتفق المخرجون الثلاثة على أن فيكتور هوغو ما كان ليوجد ربما من دون شكسبير. كذلك غوته وشيلر، وعدد كبير آخر من الأدباء الذين استقوا ينابيعهم من أعماله. 
ما يثير أوستر مايير بشكل خاص هو المقارنة بين عصر شكسبير واليوم. كلّ شخصيات شكسبير مسكونةٌ بتأنيب الضمير في نهاية المسرحية، بسبب الجرائم التي ارتكبتها. في حين أن كلّ مرتكبي جرائم العقدين الأخيرين من عصرنا: الاغتصابات، والجرائم ضدّ الإنسانية، والإعدام الإرهاب، فقدوا حاسّة تأنيب الضمير، حسب دراسة مثيرة في كتاب ألماني: “الضحك من الموت”. 
استطاع شكسبير بعبقرية ديالكتيكية أن يمزج في أعماله البعدَ الفلسفي المثيرَ للتأمل والبحث والتفسير، بِتفاصيل الحياة اليومية الفجّة البسيطة. 
العلاقة الجدلية بين الظاهر والباطن بُعدٌ جوهريٌّ في أعمال شكسبير. ألم تبدأ مسرحية هاملت بهذا السؤال المركزي: “من هنا؟” الذي ينبغي قراءته بشكلٍ أعمق. لذلك، يسمح المسرح للإنسان باستيعاب العالم، وهو يكشف الأقنعة ويجيب بعمق عن الأسئلة الوجودية. 
تمرّدَ شكسبير على النوع الأدبي السائد في زمنه وثار عليه. إذ تجاوز تيار النوع المسرحي: “التراجيديات الانتقامية” الذي كان شعبيّاً محبوباً حينها. 
ففي صيغته المعروفة لمسرحية هاملت، التي كُتِبتْ صيغتها الأولى عام 1066 في الدنمارك، يخلق شكسبير بطله هاملت بشكلٍ مدهشٍ معاكسٍ للمزاج السائد: هو إنسانٌ وديعٌ ونبيل، يرفض العنف والانتقام من عمّهِ قاتلِ أبيه وناهبِ عرشه، يتردّد، ويتساءل. 
يقول مخرجٌ مسرحي لشكسبير: شِعرُ شكسبير إمبراطوريٌّ بامتياز. يفضَّلُ سماعُه في الظلام. لا يحتاج الإنسان لغير ذلك مع نصوص شكسبير، كما لو كانت نذيراً بنهاية الإخراج المسرحي. 
موضَعَ دانيل ميسغيش شكسبير في قلب المرحلة الحديثة للفكر الإنساني، واعتبره منتهاها وذروتها حتى اليوم. يقول: طوّر شكسبير اللغة الإنجليزية بإضافة أربعة آلاف كلمة إليها. لكنه طوّر في الأساس المسرح بلغةٍ مفتوحة يملؤها المشاهد بطريقته. 
فإذا ما أخذنا بعض عباراته مثل “أن تكون أو لا تكون” فهي تافهةٌ فارغةٌ بحدّ ذاتها، لكنها ترمي القارئ في معمعان التفكير، والبحث عن التفسير. تمدّه غالباً بمفاتيح وتساؤلات وجودية تحثّه على التأمل، تضيء له نقطةً غامضةً يراها في الظلمات، تسمح له باكتشاف الذات. 
حول ذلك، ذكّر أوليفيه بي بعبارة لِشكسبير مفادها: المسرح لا شيء، كرقم صفر، لكنه يتحوّل إلى ذي قيمة عند وضع الواحد على يساره. والواحد هنا، كما يقول شكسبير: خيالُ المشاهد، وحضورُه في الصالة. لذلك، سيظل شكسبير حاضراً بيننا إلى الأبد! 
_________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *