الهايكو.. بين التقليد و«التَّقريد»!



*علي كنعان


هناك العديد من الكلمات التي تمر في وسائل الإعلام وأحاديث الناس، وهي ترمز إلى اليابان، وتدل عليها بوضوح من دون أن تقترن بذكر تلك البلاد، ومن هذه الكلمات: جبل فوجي، الساموراي، أزهار الكرز، فتيات الغيشا، الخزف، الكيمونو.. وما شابه، فضلاً عن شركات السيارات والتصوير والآلات الإلكترونية، لكن قصيدة «الهايكو» غدت أكثر تداولاً وأوسع انتشاراً، خصوصاً بين الكتاب الشباب. وقد تكاثر عدد المولعين بكتابة قصائد موجزة من ثلاثة أو أربعة أبيات، متصورين أنها هايكو، كأن هذا الشكل الجديد امتياز عالمي أسمى من كل ما لدينا من شعر. وهناك عديد من «الدواوين» التي نشرها أصحابها مذيلة بختم «هايكو»، هذه العلامة التجارية الرائجة في مجال التجريب والارتجال والتقليد العشوائي، من دون أي فهم أو معرفة بشروطه ومزاياه، حتى أوشكت مواقع التواصل الاجتماعي أن تضيق بهذا المعترك الجديد. وإذا خطر لبعضهم أن ينقل ما ينسج من «تغريدات» في «تويتر» لينشرها باعتبارها شعر هايكو، فلن يكون ذلك مفاجئاً أو مستغرباً، رغم أنها لا تمتّ بأي صلة إلى تلك القصيدة اليابانية التي لا يمكن أن يكتبها إلا شاعر ياباني مسكون بجمال الطبيعة وإيحاءاتها السحرية الرائعة.
وأعود إلى العنوان لأبيّن أن «التقريد»، رغم قسوة دلالتها، كلمة مترجمة عن الإنجليزية Aping التي تعني ما يقوم به القرد من محاكاة وتقليد لحركات البشر، وهي حركات خالية من المعنى، لكنها تستدعي ضحك الأطفال فتُفرحهم وتسليهم، وتلك هي غايتها القصوى. وأول مَن استخدم هذا الوصف في سوريا الناقد خلدون الشمعة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. ويبدو لي أن عدداً غير قليل من كتاب القصيدة القصيرة جداً في البلاد العربية صاروا ميّالين إلى وضع تلك «الومضات، أو البرقيات، أو القطوف» الشعرية تحت لافتة «الهايكو»، وهو نمط أو طراز من الشعر الياباني لا علاقة للآخرين به، من قريب أو بعيد. فالهايكو قصيدة يابانية خالصة وخاصة جداً بعدد محدود ومتميز من شعراء تلك البلاد، ولها تقاليدها العريقة التي تذكرنا، ولو من نظرة بعيدة، بالموشحات الأندلسية والسونيتات الإيطالية والإنجليزية، ومن أهمها سونيتات شكسبير.
أسرار
قصيدة الهايكو تتسم بخصائص صعبة في كثافتها، ودقيقة جداً في بنيتها، لا يمكن أن يحيط بها أو يجيد التقاطها إلا شاعر أو كاهن ياباني مستغرق في توحده وصوفيته، وهو يُعرف بعمق تاريخ بلاده وأساطيرها وطبيعتها الجغرافية وظروفها الاجتماعية، كما أنه محيط بأسرار لغته وطاقتها التعبيرية حتى حدودها القصوى. وفي هذا السياق، أود أن أشير إلى أن جوهر الشعر مرتبط ارتباطاً جذرياً بلغة الأم ومكتسبات الطفولة التي غرستها في كوامن النفس وخلايا الذاكرة، حتى كأن الشاعر ارتشفها مع الحليب. وشاعر الهايكو الأصيل مستعد –كما فعل باشو، أعظم شعرائها- أن يطوف هائماً في الجبال غير عابئ بما سيلاقي من مخاطر وأهوال، ليستلهم من تلك التجربة الاستثنائية قصيدة متميزة. وهذا يعني، في الآن ذاته، أن كثيراً من قصائد الهايكو المكتوبة باللغة اليابانية، والمتداولة في أوساط معينة من المجتمع الياباني، لا يعدها الخبراء المختصون منتمية إلى هذا الطراز الشعري العريق.
اللغة اليابانية لغة مقطعية، أي أن كل حرف مؤلف من (حركة وسكون) وحرف النون هو الوحيد الذي يأتي ساكناً كما يأتي متحركاً. وقصيدة الهايكو مؤلفة من 17 مقطعاً، تكتب في ثلاثة أسطر (5–7–5)، يطرح الشاعر في السطرين الأول والثاني الهاجس الذي يشغل باله، ثم يبحر في أعماق تأملاته ملياً ليبدع خاتمة مدهشة، مكثفة أشبه ما تكون بالحكمة في الشعر العربي، عبارة مختلفة ومفاجئة. ولا بد أن تتضمن القصيدة كلمة أو قرينة مأخوذة من الطبيعة، تدل على الوقت أو الفصل الذي كتبت فيه، وقفزة الضفدع في القصيدة التالية دليل على الربيع أو الصيف. وإيراد النص الياباني هنا بأحرف لاتينية للدلالة على عدد المقاطع:
يا لها من بركة عتيقة = Furu ike ya
ضفدع يقفز فيها = kawazu tobi komu
صوت الماء = mizu no oto
تعد هذه أشهر قصيدة كتبها الشاعر ماتسو باشو (1644-1694) ولها أكثر من ثلاثين ترجمة إلى الإنجليزية، كل مترجم حاول جاهداً أن يدرك الظلال الخفية التي تميز الشاعر في إبداعها. و(نو) في السطر الأخير هي أداة الإضافة بين (ميزو): ماء.. و(أوتو) التي تعني: «صوت، أغنية، خبطة، ضجة.. إلخ». لكن الكلمة الأخيرة (يا) في السطر الأول هي الإشكالية العويصة الكبرى في القصيدة، فهي أداة تفيد الربط واستغراق المعنى، ولها دلالات متعددة وليس لها معنى محدد. وقد قرأت في إحدى الدراسات نصف صفحة يحاول فيها الباحث تلمس المظانّ والاحتمالات الدلالية التي تعنيها أو تقاربها هذه الأداة الغامضة، في حين كانت صفحة واحدة كافية لشرح القصيدة بكاملها. ويبدو أن الشاعر هو الوحيد القادر على استكناه حقيقة الدلالة الفكرية أو الإيحاء النفسي الذي أراده منها. ويكفي أن أشير إلى أن قاموساً يابانياً، متوسط الحجم، يورد ستة معاني مختلفة لها، بدءاً من واو العطف وانتهاء بالتعجب، مروراً بأكثر من أداة وصل أو ظرف، أو مجرد حركة لاستغراق المعنى. وبعد مناقشات عدة مع أكثر من أستاذ ياباني، توصلت إلى قناعة أنها قد تكون قريبة من «ألا» الاستهلالية في الشعر العربي، وقد تعني: «آه» التعجب، أو «آه، يا لها من..!» العبارة الدالة على الدهشة أو الاستحسان والإعجاب. وقد يكون المعنى المراد: «بركة عتيقة، وحسب»! أما الكلمات الباقية فلا تثير أي إشكال. بنية البيت الأخير تؤكد بساطة العبارة «صوت الماء»، ولا من مزيد. ذلك أن الترجمة العربية الواردة أعلاه أقرب ما تكون إلى حرفية النص. ولو خطر لي أن أغامر بترجمتها، لاخترت أن يكون السطر الأخير كما يلي: «ولا شيء إلا صوت الماء!».. وذلك لإيضاح المعنى وتعميق الدلالة، لأن الأثر الوحيد الناتج عن قفزة الضفدع في البركة هو صوت ارتطام جسمه بالماء. والقصيدة حافلة بمجال واسع من الرؤى والدلالات والإيحاءات، ومنها أن البركة قد تكون عادية كما هي في الواقع الريفي، وقد يتسع الإيحاء حتى تصبح رمزاً لهذا العالم الذي نعيش فيه، وأن الضفدع يمكن أن يكون أي إنسان، ولعله الشاعر ذاته. ولأنه عالم سريع الزوال، فإن الأثر الذي يحدثه في حياته لا يزيد على صوت الارتطام بسطح الماء، وهو صوت غامض يلتقطه السمع لينطلق الخيال بعيداً في تعليل معناه، واستشعار مسحة الأسى جراء رهبة الوقت وسرعة الزوال، لكن العبارة المدهشة التي سمعتها من أحد أساتذة الأدب الياباني، هي إشارته إلى ماء الصوت، بدلاً من صوت الماء. وحين تساءلت باستغراب: «كيف؟» أجاب أن بساطة القصيدة تخفي وراءها عمقاً فكرياً وفلسفياً بعيد المدى، كما توحي بغموض جميل يفتح أمام القارئ ضروباً من الاحتمالات، ولكل قارئ أن يستخلص منها ما يشاء، وفق ثقافته وحالته النفسية. إن غموض صوت الارتطام بسطح الماء يسمح للخيال أن يقترح غموضاً مقابلاً، وهو «ماء الصوت»، لأن وقع الارتطام بالماء يمتاز بطراوة مدهشة في السمع، لا نشعر بمثلها عند الاصطدام بسطح جامد كالتراب والزجاج والحديد، مثلاً.
وأكثر من ذلك، لا بد من مراعاة طبيعة اللغة اليابانية، ذلك أن المفرد والجمع فيها واحد، ولا فرق بين النكرة والمعرفة، وكذلك المذكر والمؤنث. وبالتالي، فإن (إكِه)، في السطر الأول، تعني بركة وبرك، كما أن (كاوازو) في السطر الثاني تعني ضفدعاً أو ضفادع، نكرة ومعرفة. وهكذا يتسع نطاق الدلالة وإيحاءاتها إلى أوسع مدى ممكن.
وسألت أحد طلاب الدراسات العليا يوماً أن يعطيني قصيدة تعجبه، وتحظى بشهرة كبيرة، إلى جانب قصيدة باشو. فقال لي مباشرة:
أيتها الأعشاب الغضة
حاذري واختبئي
فالفارس قادم
ثم بادر حالاً إلى توضيح الخلفية التاريخية لهذه القصيدة، قائلاً إن اليابان عاشت في عزلة طويلة تمتد نحو 260 سنة أو تزيد قليلاً. وهذه العزلة جعلتها تتوجس خيفة من كل قادم غريب. وبهذه الكلمات اتضح المعنى المباشر الذي يتضمنه قدوم الفارس الغريب وما يحيط به من رهبة، وإن كانت الدلالة الرمزية تترك إيحاءات عديدة وظلالاً شتى من الشرح والتأويل، كما أن ذكر الأعشاب يوحي بالربيع، في إشارة رمزية إلى ذلك الوقت من السنة.

مثال تاريخي
لمزيد من الإيضاح، وحرصاً مني على مشاعر الشعراء الشباب ومراعاة حساسياتهم المرهفة، سأتناول بعض الأمثلة من الأدب العربي في القديم والحديث.
تمتاز الموشحات الأندلسية بشهرة عالمية بوّأتها مكانة مرموقة في الأوساط الأدبية الأوروبية، أسمى وأهم بكثير مما نالته في البلاد العربية. فالموشح ينفرد بخصائص متميزة في بنيته التعبيرية الجميلة، وإيقاعه الغنائي العذب، ومضمونه الوجداني الرقيق المفعم بالمشاعر الإنسانية الحميمة، والتأمل العميق الذي يلامس الوجد الصوفي، موشّى بمسحة من الشجن. ويبدو لي أن أول من التفت إلى أهمية الموشحات هم شعراء إيطاليا، وبترارك في طليعتهم، فاقتبسوا نمطاً شعرياً جديداً، محدوداً في 14 بيتاً، أسموه Sonneto مؤلفاً من قسمين: ثمانية أبيات في الأول، وستة في الثاني، وكلاهما يتخذ شكلاً إيقاعياً تتردد فيه القافية وفق نسق منتظم صارم، كما يمتاز الأخير بخاتمة مدروسة بإتقان فني وروعة جمالية، نغماً ودلالة. وقد أطلقوا على هذا الشكل الشعري الجديد «سونيتة»، ولم يستعيروا كلمة «موشح»، ولم يلجؤوا إلى التقليد الارتجالي الفج، بل اكتفوا بالاستئناس وأبدعوا قصائدهم الغنائية الخاصة بهم، وإن كانت الأندلس مصدر التأثير والحافز والإلهام، ولو من بعيد.
ثم جاء، من بعدهم، شكسبير وأبدع سونيتات خاصة به وباللغة الإنجليزية، وهي مختلفة عن النمط الإيطالي في ترتيب القوافي، وأطلق عليها «سونيت» Sonnet، ولم يلتزم الصيغة الإيطالية، ذلك لأن لكل شعب لغته الخاصة، واللغة الإنجليزية تختلف اختلافاً كبيراً عن اللاتينية، وإن استعارت بعض كلماتها وصاغتها بما يناسب أهلها.
مثال حديث
بعد هزيمة الخامس من يونيو/‏‏ حزيران، كتب أدونيس:
«بكت المئذنة/‏‏ حين جاء الغريب اشتراها/‏‏ وبنى فوقها مدخنة».
هذه الأبيات أو الأسطر الثلاثة توازي قصيدة «هايكو»، لكن الشاعر لم يطلق عليها هذه السمة اليابانية لأنه شاعر عربي.. وهذا يكفي.
تقليد «قرداتي»
«التقريد» كلمة مترجمة عن الإنجليزية Aping وتعني ما يقوم به القرد من محاكاة وتقليد لحركات البشر، وهي حركات خالية من المعنى، لكنها تستدعي ضحك الأطفال فتفرحهم وتسليهم، وتلك هي غايتها القصوى. وأول من استخدم هذا الوصف في سوريا الناقد خلدون الشمعة في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي. ويبدو لي أن عدداً غير قليل من كتاب القصيدة القصيرة جداً في البلاد العربية صاروا ميالين إلى وضع تلك «الومضات، أو البرقيات، أو القطوف» الشعرية تحت لافتة «الهايكو»، وهو نمط أو طراز من الشعر الياباني لا علاقة للآخرين به، من قريب أو بعيد.
روح الشعر
مئات الفروع
تنبت من براعم الروح الخصبة..
ومن الكرمة الواحدة.
تشي يوني
***
تحت غلالة قمر الصيف
من ذا الذي يختال هناك بالأبيض
على الضفة الأخرى.
شورا
***
الليل يحل..
صامتة في مياه حقل الأرز
تضيء المجرة.
إيزن
***
الحقل المزهر عند الشفق..
القمر يهل في شرق السماء
والشمس تأفل في غربها
بوسون
***
في الحوض الذي خلفته الأمطار
لا تزال البطات التي لما تذبح
توقوق فرحة
إيسا
***
لن أنسى
ما حييت ذلك المغزى الفريد
لقطرة الندى
باشو
________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *