أول المَشْي.. فلسفة


*عبد السلام بنعبد العالي


ليس أتباع أرسطو وحدهم المشاؤون، بل أغلب الفلاسفة مشاؤون كبار: سقراط، روسو، كانط، كييركغارد، نيتشه…احتفظ التاريخ بأسماء هؤلاء الذين لم يكتفوا باتخاذ المشْي ممارسةً يومية فحسب، وإنما جعلوه موضوعا لتفكيرهم الفلسفي، كما احتفظت الجغرافية بأسماء مَمْشياتهم: آغورا سقراط، رواق الأرسطيين والرواقيين، ممرّ الفيلسوف كانط، زقاق نيتشه، دروب هايدغر..
***
ك. ياسبرز: «الفلسفة، هي نهج طريق».
***
يُرجع أرسطو ميلاد الفلسفة إلى طاليس. يُحكَى عن فيلسوف مالطة أنه، بينما كان يمشي وهو يتأمل السّماء المرصّعة بالنجوم، أخطأ الخَطوة فهوى في بئر، وكان ذلك على مرأى خادمة انفجرت مقهقهةً: اقترن ميلاد الفلسفة بخطوة خاطئة أعقبها سيلُ من الضحك.
***
خطوة خطوة: خطوة قدم، وخطوة فكر. الوقع والإيقاع: الإنصات إلى الجسد وإلى صوت النفس.
***
مونتيني: «ترقد أفكاري إذا أقعدتها. ولا يعمل ذهني ما لم تحرّكه الساقان».
***
المشّاء حاضر دائما في جسده، مضطر إلى الإنصات إلى وقعه وإيقاعه، متنبّه إلى ردوده واستجاباته، مجبر على التفكير باستمرار في مشاكله الجسمية والتنفسية.
***
عن طريق المشْي، نشعر بالأرض تحت أقدامنا، وندرك انجذابنا نحوها، فنتبين حدودنا.
***
عند المشي نشعر بثقلنا pesanteur وتقدّم أعمارنا، فنغدو متنبهين لذواتنا ولزمن حياتنا.
***
في المشي، نعيش تجربة لقاء الأرضي بالسماوي، والتحام الجسدي بالروحي: وعيُ بالمحايثة والتعالي، وإدراك للمحدودية والانفتاح، لحظة تَفكّر ودرس في الأخلاق.
***
ج.ج. روسو: «معلّمونا الأوّلون في الفلسفة، هم أقدامنا».
***
عندما نربط الفكر بالمشْي، فلا يعني ذلك أساسا أن نشاطنا الذهني يغدو أكثر قدرة على حلّ المعضلات الكبرى، وإنما أن المشي يجعلنا نشعر بامتدادنا، فكرا وجسدا، في الكون بأكمله، فنعود لنلتحم بالطبيعة من جديد، ونتفاعل معها ومع ذواتنا على نحو مغاير.
***
عند المشي نشعر بحيويتنا، ونفسح المجال لحواسّنا كي تسترجع قدراتها على التفاعل مع الطبيعة، كما نفتح ذهننا على مختلف الأحاسيس حتى لا يبقى سجين أفكار مجردة باردة.
***
وأنا أمشي، أتبيّن أنني بكليتي، وعلى حدّ تعبير نيتشه، «لست إلا جسدا ولا شيءَ آخر، فما النفس إلا كلمة تدلّ على جزء من هذا الجسد».
***
يقول الشّاعر: «عندما أمشي، يغمرني الانطباع بأن جسدي يتكلم».
***
سقطة طاليس: الفكر طريق محفوف بالمخاطر، ومغامرة لا تخلو من تعثّر، وارتماء في أحضان المجهول.
***
نرسم دروب الغابات ومسالكها بفعل ما تخُطه أقدامنا عليها. فهي تُخَطَ بفعل السير ومن جرائه، وهي لا تتقدمه بحيث لا يكون عليه إلا أن «يأخذها».
***
يعلّمنا السّير في الغابات أننا لا نتبيّن الطريق إلا بعد تيه وضلال، كما يعلّمنا البحث عن المسالك الملتوية les détours بلوغا لأهدافنا. إنه يلقننا درسا في اللا مباشرة.
***
قيمة دروب الغابات لا تكمن فيما تؤدي إليه، فهي بالتحديد «دروب لا تؤدي إلى غاية»، إنها الـ Holzwege الهايدغرية التي لا تؤدي إلاّ إلى الغابة.
***
نمشي الهوينى احتجاجاً على جنون السرعة، وطموحاً في استعادة فضيلة البُطء.
***
يتحدّث ج.ج.روسو عن المشي باعتباره تجربة حرية. يُشعرنا المشي بنوع من التحكّم في الزمن، وضبط إيقاعه.
***
غالبا ما يقترن المشي بالابتعاد عن الصّخب، والبحث عن سكون الطبيعة وصمتها الذي يتيح لنا أن نستمع إلى ما لم نعتد الاستماع إليه. إنه طريق إلى السّكينة Sérénité.
***
المشي أيديولوجيا وسياسة: نعبّر عن مواقفنا ونشارك في الاقتراعات عن طريق أقدامنا. المسيرة في اتجاه سجن الباستيل، المسيرات المظاهرات دفاعا عن الحقوق، المسيرات الاحتجاجية.
***
عندما أمشي فإن جسدي يحسّ وينضوي ويفكر.
________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *