*منصف المزغنّي
1
لم أغمضْ عينيّ ليلةَ صدور كتابي الأوّل «عناقيد الفرح الخاوي» إلاّ بعد أن وضعتُ نسخة من الكتاب أمامي فوق خزانة الملابس المقابل للسرير، بحيث يكون غلاف الكتاب هو أوّل منظر تراه عيناي في صباح الغد الذي صار ذكرى أمس جميل ليوم صدور الديوان في 1981/3/18، فقد قضيت كامل يومي وأنا أتلذّذُ بملامسة جسدِ الكتاب الصغير (٦٨ صفحة) وأضمُّ نسخةً إلى نسخةٍ وأقول لنفسي: «هذا هو حجمُ ما كتبتُ إنْ أصدرتُ كتابي الثاني الذي ينتظر النشر». وأتسلّى بضمّ خمس نسخ وأقول: «وهذا هو الجزء الأوّل من أعمالي الشعرية الكاملة».
2
مرَّ اليومُ الأوّلُ بعد صدور الديوان مزحوماً، توجّهتُ الى الناشر واستلمتُ منه نُسْخاً محدودةً معدودةً. فقد كان فرحاً بالحدث وحريصاً على البيع، وكنتُ مكتظاً بمشاعر شتّى سببها الأول ترحيب القرّاء بالديوان، وخوض تجربة البيع، فضلاً عن حكاية الإهداء والتوقيع على النسخ واستخدام عبارات من نوع: إلى الأخ العزيز، و«الأخت الفاضلة» وصولاً إلى «الصعلوك الثائر» و«المجنونة بحبّ الشعر لا بحب الشعراء»، وسمَّيْتُ كتابةَ الإهداء هذه «تجربة الكتابة على الصفحة الأولي».
كنت خائفاً من التورّط في سرقة نفسي عبر هذا الغول الذي حدثني عنه بعض الكتاب الذين مروا بتجربة اسمها: إهداء كتابك للآخرين، وقررتُ أن أكون صارماً في موضوع الإهداء، وحتى حبيبتي (في ذلك الوقت) أهديتُها نسخةً، وبعتُها نسخةً أهدتْها بدورها لأخيها. كنتُ أشتري النسخَ من الناشر الذي كان يقتّرُها عليَّ، ولا يسمحُ بخروج نسخة بالمجّان إلّا بعلمه، فلا يهدي أيّ كتاب إلا للصحافي المشهور بالقراءة والمشهود له بالتميز في الكتابة.
3
حكاية النشر كانت عسيرة بفعل الرقابة وبالنظر إلى طبيعة ما كنتُ أكتبه من شعر يولدُ مشاكساً، فممنوعاً من النشر، ومرغوباً فيه من جمهور من الشباب والطلاب والعمال، وأعضاء الجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، وجامعة نوادي السينما، وهاتان الجامعتان كانتا عشَّا لإيواء جماعات يسارية ممنوعة من الانتظام في حزب سياسيّ، وكانت ثقافة ذلك اليسار مُمثّلة في الترويج لأغاني الشيخ إمام، أشعار أحمد فؤاد نجم، ونجيب سرور ومظفر النواب، ولويس اراغون، وناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وأغاني ليو فراي، وأفلام ايزنستاين، ومطبوعات دور النشر اللبنانية، مثل «الطليعة» و«الفارابي» و«ابن خلدون».
4
عُرِفَتْ أشعاري من خلال السماع وليس القراءة: لم تكن الجرائد التونسية في السبعينات في حكم الرئيس الحبيب بورقيبة تنشر لي، كما أني لم أكن أرسل لها نصوصي، ورؤساء تحرير الصحف تلك الأيام كانوا يستمعون إليَّ بصمت، ولا يطلبون مني أشعاراً للنشر، وكنت أفهمُ حَرَجَهم، وكانوا يفهمون أني أفهمُ وأتفهّمُ هذا الحَرَج/ الجُرْح.
5
«الكاسيت» صار وسيلتي في النشر، وكنتُ أزور المدن التونسية وأتحول إلى قراها وأريافها ليلاً، وأحياناً أتنقل في ظروف متسمة بالتكتّم والسرية، وكانت آلات التسجيل تنتصب أمامي، ولقد زرتُ بعض القرى ليلاً، وغادرتُها فجراً قبل أن أرى أهلها وحركة الناس في فضائها المعماري الحيّ. وعوّلتُ على الكاسيت في تلك السنوات، وكنت أراه وسيلة نقل شعري.
6
لم أفكر في نشر كتاب شعري إلى أن دعاني الأستاذ الجامعي والناقد اليساري توفيق بكار الذي حدثني عن إمكانية نشر كتابي بعدما صار الطقس السياسي يفوح بروائح الانفتاح الديموقراطي، وهو العهد الذي دشنه محمد مزالي الوزير الأول التونسي المثقف وصاحب مجلة «الفكر» الشهرية.
بناء على توصية من هذا الناقد، تأبطت أشعاري وذهبت إلى الناشر نور الدين بن خذر، وهو مثقف يساري وسجين سياسي سابق، وقرّر أن ينشر كتابي الأول عن دار «ديميتير»، فلم أصدِّقْ.
7
قال لي الناشر: خطُّك مقروء، ولتخفيض كلفة الكتاب، أرى أن تكتب كتابك بخطك الشخصيّ، بدل التنضيد الالكتروني (الذي كان مكلفاً في تلك الأعوام)، وللقيام بهذه العملية سلّمني الناشر أوراقاً بيضاء مقوّاة، وكانت مسطورة بالقلم الأخضر، وأوصاني بأن لا أتجاوز في الصفحة الواحدة عشرين سطراً، وأن أخطَّ الكتاب بالحبر الصيني. وأفهمني أنّ اللون الأخضر لا يظهر عند التحميض، وكان عليّ أن أمارس مهنة شاقة هي كتابة شعري بريشة مشبّكة وعليَّ أنْ أغْمِسَها في المحبرة ثلاث مرات لكتابة اسمي ولقبي (على سبيل المثال).
وطلب مني عناوين القصائد، وسلّمها للخطاط المحترف الفنان توفيق الرايس. وتحدثتُ معه عن تصوري للغلاف الخلفي، عبَّرْتُ له عن رغبتي في نشر صورتي أثناء قراءة الشعر وقد التقطها المصوّرُ سليم مزالي في سهرة الشعر الشعبي في افتتاح «مهرجان قرطاج» صيف ١٩٨٠.
أمّا وجه الكتاب، فأرى أنه صورة عصفور أحمر يرفرفُ وجناحاهُ ريشٌ منتوفٌ منثور على قشورِ بيض فاسد.
ضحك الناشر وقال لي:
احْكِ، هذا الكلام لهذه الرسامة الفرنسية ماي إنجيلي، وقل لها ما تريدُ إنجازه، وكانت النتيجةُ أن تطابق الرسم المحفور مع ما في خيالي .
8
خلال أربعين يوماً، نفدت الطبعة التي سُحِبتْ في ثلاثة آلاف نسخة، وأعاد الناشر طبعة ثانية في أول مايو من السنة نفسها وسحب ألفَيْ نسخة. لقد بلغ مجموع النسخ المسحوبة خمسة آلاف نسخة، وهو رقم غير مألوف لديوان شاعر لا يعرفه القرّاء، ولكن يعرفه قسمٌ من المستمعين إِلَيْه طيلة عشر سنوات عبر تجوال وتطواف بين قرى البلاد التونسية ومدنها التي كانت تستدعيني لقراءة الشعر في منتدياتها الأدبية، وحلقات الطلاب في كليات الطب والآداب العربية والفرنسية، ونوادي السينما والجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، وكذلك من خلال أصدقاء نقابيين وحلقات يساريين يحبون أشعاري، وكذلك شعب من الطلاب التونسيين في باريس خاصة، وكان بعضهم يقرأ شعري لما فيه من حماس وسخرية.
9
شكّل «عناقيد الفرح الخاوي» في تونس حدثاً بين دواوين الشعر التي لا تكاد تباع في المكتبات، بل لا تباع في أُمَّة عربية (أُمَّةُ اقرأ التي ترفض أن تقرأ) وتدّعي أن الشعر هو فنّها الأوّل.
لم تبحث الصحافة عن السرِّ في هذا الانتشار السريع الذي عرفه كتابي الشعري الأوّل! وأنا كنت أعرفه، وهو سياسيّ بالأساس، ولكن الإعلام أخذ المسألة على النحو الأسهل: الشعر يمكن أن يُباع، وهذا جعل الشعراء وغيرهم يتسابقون في نشر دواوينهم من دون تحقيق نجاح أو انتشار.
10
في مقهى «عند الزنوج» (الذي تحوّل إلى مصرف بنكي وكان يرتاده المثقفون والاُدباء)، طلب مني الكاتبُ سمير العيادي (وهو مستشار وزير الثقافة) أن أهدي كتابي إلى وزير الثقافة الأستاذ البشير بن سلامة، فسلمتُ لسمير نسخة للوزير الذي طلب مقابلتي ليسألني سؤالاً صريحاً: «أشكرك على الإهداء، وأنا طلبتُ مقابلتك ودعوتك لأني لا أعرفك، وأتعجب من شاعر يمكن أن يكون معروفاً من دون مرور بقنوات النشر التقليدية، مثل مجلة «الفكر» (لصاحبها محمد مزالي، وكان الوزير مدير تحريرها) كما أنَّك لم تمرَّ بملحق جريدة «العمل» الثقافي (لسان الحزب الحاكم)». كان سؤال الوزير طريفاً وكان جوابي: «أنا لا أقيم حساب النشر والرقابة عند الكتابة، كما أعرف سلفاً أنّ أبواب النشر مغلقة، ولكن القصائد وصلت الآن بفضل سياسة الانفتاح التي انتهجها الوزير الأول صديقك محمد مزالي».
11
لم يكن الديوان يتجاوز أكثر من خمس قصائد مكتوبة بين 1974 و1986 في ظل نظام الرئيس الحبيب بورقيبة، وخلال رئاسة حكومة الوزير الأول الهادي نويرة، والقصائد ذات مناخات معادية للنظام، كما كان يقال، وأن تغلفت بالرموز.
ولقد وصلت سياسة الوزير الأول نويرة مع الحرية إلى طريق مسدود، فكان لا بد من وزير أول جديد ذي نغمة جديدة هو محمد مزالي الذي سوف ينادي بالانفتاح والديموقراطية. ومن هذا الباب أمكن لديوان مثل «عناقيد الفرح الخاوي» وأعمال فنية أخرى أن ترى النور.
12
بواسطة النشر الورقي، تسلل كتابي الأول إلى المستمعين وحوَّل بعضهم إلى قرّاء، ونقلني الكتاب من شاعر مسموع إلى شاعر مقروء من دون أن يعني هذا إنهاء للعهد الشفوي أو افتتاحاً لعهد كتابيٍّ، فالقصيدة المسموعة والمرئية هي مدى من الأمداء التي يمكن أن تصل اليه القصيدة بالصوت والصورة لتختبر القصيدة وهي مكتوبة وموثوقة على الورق.
13
وأما بعد، فالحقَّ أقول: ليس «عناقيد الفرح الخاوي» هو كتابي الأوّل، ولأني لا أحب أن أهرب من تاريخي كما يفعل بعض الشعراء الذين يجهضون ديونهم الأول، فقد سبق أن أصدرتُ كتاباً أول عنوانه «تقرير أعده شاهد عيان اسمه البوهالي» نسختُه يدويّاً سنة 1973، وصدر في خمس نسخ سرّيّة، وبدائية ومخطوطة بيدي. وبعدما غابت أسباب الرقابة التي منعته في عهدَيْ بورقيبة وبن علي، فإني سأنشر هذا الكتاب قانونياً في نهاية عام 2016 الموافق لصفاقس (مدينتي) عاصمة الثقافة العربية، وهذه حكاية أخرى.
___________
كلمات
العدد ٢٩٤٢