*عبدالإله بلقزيز
إلى أيّ جنس من أجناس المعرفة والثقافة ينتمي النقد الأدبي (والفني)؛ إلى الأدب، أو إلى الفكر، أو إلى العلوم الإنسانية؟
سؤال مشروع تفرضه مكانةُ النقد الملتبسة في تصنيفاته الدارجة- إنْ في الدراسات أو في البرامج المدرسية والجامعية- والتي تضعه، في العادة، جنبًا إلى جنب مع الأدب من دون أن تجاهر بالقول إنّه إنتاج أدبي. هذه كانت حاله في التصنيفات الكلاسيكية؛ حيث تَجَاور، في كتب القدماء، مع الشعر والنثر الفنّي، فنُظِر إليه بوصفه الميزانَ الذي به يكون عِيَارُ وزن النصّ من الوجهتين التعبيرية والجمالية.
استمرّ النظر إليه كذلك عند المحدثين والمعاصرين- عربًا وغيرَ عرب- فدخَل (التصنيف إيّاه) في برامج التكوين المدرسي، حيث يكون- في البدء- حاشيةً على قصيدةٍ أو نصٍّ نثري وتمرينًا عليهما. ثم يصبح مادةً للتكوين قائمة بذاتها، وقد يمسي اختصاصاً في المرحلة الجامعية، وظلت نسبتُه إلى أقسام اللغة والأدب ثابتة؛ أكانت أقسام اللغة العربية وآدابها، أو نظيرتها الفرنسية والإنجليزية والإسبانية…إلخ، في الجامعات العربية. والحقّ أن التباس هذه النسبة، وانطواءَها على أسئلةٍ إشكالية منهجية وموضوعاتية
\Thématiques- يفرض إعادة التفكير في الوضع الاعتباري للنقد الأدبي (والفني)، ومكانته من الإنتاج الرمزي: التخييلي والفكري.
ليس النقدُ إبداعاً، وإنْ هو ارتبط بالإبداع في عالم التخييل وحاسبَه، أحيانًا، بمعايير الخيال نفسه، النقد، بالأحرى، تأمُّلٌ في عالمٍ رمزي، ولكن بأدوات الفكر ومناهجه. من الطبيعي أن يرتبط بعلوم اللغة (مثل العروض والبلاغة بعلومها كافة: البيان، المعاني، البديع)، لأنه يشتغل، في المقام الأول، على مادَّةٍ لغوية (النصّ الأدبي) تتوسّل الجماليات في التعبير لتعْلُوَ بها على الكلام العادي. ومن الطبيعي، حين يخرج عن نطاق المادة المكتوبة، ويتناول مادةً بصرية (تشكيل، نحت، عمارة، سينما…) أو سمعية (موسيقى)، أن يتوسَّل معارف أخرى وجماليات أخرى مناسبة، كالمعرفة بأصول استخدام الألوان والمواد الطبيعية في العمارة وصناعة المنحوتات، والعلم بأصول استخدام الصورة والضوء وابتناء المشهد الدرامي، ثم العلم بأصول الموسيقى ولغة النوتة وطرائق التأليف الموسيقي، وتوزيع الجمل الموسيقية على وتريات أو آلات نفخٍ أو آلات إيقاع، وما شاكل ذلك، فهذه جميعُها في جملةِ عُدّةِ اشتغال النقد الأدبي والفني. ولكن هذا الأخير ما عاد يكفيه حيازة المعرفة بعلوم اللغة، وتقنيات التصوير والتشكيل، وبناء المشهد السينمائي والمسرحي، وعلوم المقامات والعزف والتأليف والتوزيع؛ فلقد باتت مساحةُ استثماره أوسع، بعد إذْ دخلتها علومٌ جديدة، ومناهج مستحدثة، لم تكن في حوزة القدماء.
يشتغل الناقد الأدبي، اليوم، على مادَّةٍ أدبية (شعر، رواية، قصة، سرديات مختلفة: محكية ومدوَّنة…) أو فنية (مسرح، سينما، تصوير فوتوغرافي، تشكيل، نحت، موسيقى، رقص…)، لكنه يشتغل بعدّة فكرية مستقاة من ميادين معرفية مختلفة (فلسفة، علم اجتماع، علم نفس، تاريخ، سياسة، اقتصاد، أنثروبولوجيا، لسانيات، سيميائيات… إلخ)، متوسّلاً في عمله مناهج مختلفة (تاريخية، تاريخية مقارِنة، تأويلية أو هرمينوطيقية، فينومينولوجية، أركيولوجية، تحليل نفسية، سوسيولوجية، مادية تاريخية، بنيوية… إلخ). وهو، بهذا الحسبان، في قلب المعرفة والفكر، وبضاعتُه من هذيْن لا من الأدب، وإنْ شدَّتْهُ نصوصُ الأخير إليها أكثر من غيرها من النصوص.
فيمَ يختلف الناقد الأدبي، اليوم، عن الباحث التاريخي، أو عن دارس تاريخ الفكر (الفلسفي مثلاً؟). الفروق بين عمله وعملهما قليلة، وهي تعود أساساً إلى مسألتيْن: أولاهما أنه يتناول- بالدرس والتحليل نصّاً تخييلياً، فيما الآخران يتناولان نصوصاً فكرية أو تدوينية؛ وثانيهما أنه لا ينصرف إلى تحليل مضمون المادة المدروسة، أو طريقة تحريرها فحسب، وإنما يبحث في ما وراء الصنعة عن الحساسية الجمالية في النصّ. ما خلا ذلك، الذي يعود إلى الاختلاف بين طبيعة النصّ الأدبي التخيلي وطبيعة النصّ التقريري والفكري، تتّسع مساحة التشابُه والتقاطع بين كلٍّ من الدارسين الثلاثة. كلُّ واحدٍ من الثلاثة يتعامل مع النصّ بوصفه خطابًا يحمل رسالةً أو مضمونًا. يستخدم، في فكّ شفرته، أدوات تحليل الخطاب تبعاً لنوع صلته بمصادر المعرفة ومناهجها؛ فيحلّله، مثلاً، إمّا بحسبانه بنيةً قوليةً للوقوف على علاقاتها الدلالية؛ مفصوحاتها ومضمَراتها، مستويات التظهير والإبراز فيها ومستويات الإخفاء والطمس… إلخ؛ أو يحلّله بحسبانه صورةً من التعبير عن واقعٍ تاريخي في المكان والزمان، فيقرأ درجات إسقاط الواقع في النصّ، أو المضمون الاجتماعي والإيديولوجي فيه، ونوع الرسالة التي يبغي الخطاب تبليغها… إلخ؛ أو بحسبانه وثيقة: تدوِّنُ نظرةً إلى حقبة تاريخية، أو إلى مسألةٍ من مسائل تاريخ المعرفةِ إشكاليةٍ، أو إلى حساسية ثقافية وتعبيرية وجمالية في لحظةِ من التطور الثقافي، أو ما شاكل ذلك من أنواع المقاربات المنهجية للنصّ.
ولقد يسع الناقد الأدبي والفني أن ينهض بدور المؤرّخ في مجاله، فيجمع بين حرفته كناقدٍ للنصّ، وحرفة المؤرّخ كدارسٍ للوثيقة، وحرفة دارس الفكر كمحلّلٍ لأنساق المعرفة ومتعقِّبٍ بالرصد تواريخَها؛ هكذا يمكن للناقدَ- في هذا الجمع بين التخصصات- أن يكتب تاريخًا نقديًا للشعر، أو للرواية، أو لمدارس التشكيل، أو لتيارات الإنتاج الموسيقي، أو لمدارس الإخراج السينمائي والمسرحي، وما شابه ذلك؛ أو بطريقةٍ يتداخل فيها التأريخ بالتحليل والدرس…إلخ. وعندي أنه إنما يخوض في عملٍ فكريّ بأدق المعاني في مثل هذه الحال، وبالتالي لا مسوّغ لإخراج عمله ذاك من خانة العمل الفكري لمجرَّد أنّ موضوع عمله ليس الفكر، وإنما الأدب والفنّ. إنّ العبرة في الحكم على نسبته إلى فروع المعرفة، وتصنيفه في واحد منها، ليست بالموضوع المبحوث، وإنما بالأدوات والمناهج والأجهزة المفهومية التي يُعْمِلُها في البحث. وهنا لا مهرب من نسبة النقد الأدبي إلى العمل الفكري.
إذا كان لابدّ من تنفيلٍ وإفاضة، في باب بيان نَسَب النقد الأدبي إلى الفكر، فالمثال الأوفى بيانًا هو اتجاه نقّادٍ كُثْر، في الثقافات الإنسانية كافة، إلى الكتابة التنظيرية، أي إلى التفكير في مجال النقد نفسِه وتحويله إلى موضوع للتأمّل النظري؛ ومنه: التفكير في حرفة الناقد، ووسائل التأهيل المعرفي لعمران النقد بالنظريات والمناهج؛ والتفكير في مفهوم النصّ الأدبي والفني، وعلاقة المؤلّف بالنصّ، وعلاقة المتلقي به، وتحليل مناحي التلقي ومستوياته؛ وكيفيات استثمار مكتسبات العلوم الإنسانية قصد إعمار مجال النقد الأدبي علميًا، وسوى تلك من القضايا النظرية التي يمكن أن يفكّر فيها- وقد فكّر فيها- النقاد. إنّ هذه الدائرة من الكتابة التنظيرية في النقد دائرةٌ واسعة في التأليف النقدي المعاصر، وهي تكفي وحدها كي تقطع بنسبته إلى ميدان الفكر والعلوم الإنسانية.
________
*الخليج الثقافي