مستشرقة ألمانية تبرئ حواء من مسؤولية خطيئة الخروج من الجنة



محمد الحمامصي


تكتشف المستشرقة الألمانية الراحلة آنا ماري شمل، والتي كرست أكثر من خمسين سنة من حياتها لفهم العالم الإسلامي، في كتابها “روحي أنثى: الأنوثة في الإسلام”، كنزا من الأفكار والصور التي تزيح الستار عن دور المرأة في الإسلام الذي أسيء فهمه طويلا، منتقدة تحديدا النسويات الغربيات اللائي يتناولن الإسلام دون الاستغراق الكافي في ثقافاته، ولغاته، وتقاليد مجتمعاته العديدة. محطمة الأنماط والأفكار المسبقة، حيث تعيد إنشاء باب هامّ لكنه مجهول في الروحانية الإسلامية، وذلك من خلال محاولة متميزة وجديدة لفهم الأنوثة في الإسلام عموما، والإسلام الصوفي خاصة.
وترتحل شمل عبر القصص والأحداث والمواقف منذ زمن الرسول (ص) والخلفاء الراشدين، وكذلك من خلال الأعمال الكلاسيكية بالعربية والفارسية والتركية والهندوإسلامية، لتؤكد مساواة الإسلام بين الرجل والمرأة في القرآن والسنة، وضمن اللغة النسائية في التقاليد العرفانية الإسلامية، وأمهات الكتب الصوفية، والكتب الموجهة إلى الناشئات المسلمات، وأعمال الخطاطات، والشاعرات، والفقيهات. كما بيّنت أن الفرع العرفاني في الإسلام؛ أي الصوفية، يبدي احتراما كبيرا للنساء التقيات، الفقيهات، المتأدبات. وخلصت إلى أن رابعة العدوية أزاحت الطريقة الصوفية في التنسك والزهد مرتقية بها إلى العشق المطلق لله.
سير ورحلات
الكتاب الصادر عن “الكتب خان للنشر”، كما أوضحت مترجمته لميس فايد، هو أحد إنتاجات شمل الفكرية التي تبلورت خلال رحلاتها في شبه القارة الهندية، والذي تناقش فيه العلاقة بين النبي والنساء، متخذة من زوجات النبي مثالا على شكل المرأة ودورها في الإسلام، كما ناقشت المسألة الشائكة عن تعدد الزوجات، وتعرضت إلى النساء المتصوفات في التاريخ الإسلامي، ودور رابعة العدوية المحوري في التحليق بالتصوف إلى آفاق وفضاءات نورانية رحبة.
وأبرزت شخصيات نسائية أخرى وصلت إلينا من سيرهن ما يدل على وجود نشاط ديني صوفي مكثف للسيدات منذ العصور الإسلامية الأولى، وامتدادا على العصور الوسطى سواء في العالم الإسلامي أو في محيط الثقافة الهندية بشبه القارة الهندية التي ربما حظيت فيها النساء بمكانة رفيعة، وأشارت إلى دور المرأة كمعلم روحي لكبار المتصوفة على غرار الشيخ محيي الدين بن عربي الأندلسي، ودورهن الفاعل في الطرق الصوفية وتمويلها، ولم تهمل آنا ماري التعليق على الأعمال الصوفية وشرحها كما فعلت بوبورساتي في شرحها لأعمال فخر الدين عراقي والتعليق عليها، بل وصلت إلى حدّ الإشادة بمآثر الأقطاب الصوفيين، والقطب هو أعلى درجات الصوفية، حيث أثنت على فعل ابن عربي حين أعطى الخرقة لأربع عشرة امرأة، والمرشد الصوفي ميان مير الذي أراد أن يجعل الأميرة بيبي جمال خاتون خليفته في الطريقة القادرية.
وتكشف شمل عن الروح الأنثوية للوجود التي قال عنها جلال الدين الرومي إنها امرأة حبلى “تحمل في بطنها اللغز الذي يزداد عمقا مع كل خطوة”، وتؤكد على أن المرأة تتمتع بمساواة كاملة في الصوفية، حتى وإن سميت السيدة الرشيدة “الكاملة” بـ”رجل الله”، فإجلال السيدات العاشقات لله، والورعات، والمتعلمات أمر معروف في التاريخ الإسلامي، وهو ما يبرزه الكتاب سواء كانت شخصيات تاريخية حاضرة في وجدان المسلمين، أو رموزا للروح التي اشتاقت إلى الله.
تقول المستشرقة آنا ماري شمل في كتابها “تعدّ المرأة في عالم ابن عربي الفكري هي مرادف لشوق الرجل في أعلى درجاته وهي تجسيد لما هو إلهي بكل ما تحمله من عناصر موجبة وسالبة، أنثوية وذكورية. لكن ألم يؤدّ ذلك الموقف الصوفياني تجاه الأنثوي في أيدي وأرواح قلة من القادة الرجال إلى إخضاع المرأة، طالما أنه لم يدرك أو لم يدرك بعد المكوّن الروحي؟ إلا أنه توجد طريقة أخرى لإعادة كرامة المرأة إليها وهي تشكيلها لكي تكون «رجل الله» هو المثالي، أفلم تكن الروح هي الباحث والفاعل المتشوق، الذي يشكل عبر التجوال الدائم لتجتاز طريقها إلى المحبوب الإلهي، رغم الألم والعذاب؟”.
وترى شمل أن وضع المرأة في الإسلام قد ساء بمرور الزمن وتيبست القوانين وانتشرت التصورات السلبية، حيث تقول “ويفسر الاستنباط القرآني بشكل مطّرد في سورة البقرة (الآية 228) «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ» بالتقليل من شأن المرأة وعليه يتمّ تقليم الكثير من الحقوق الشرعية، والسيدات اللواتي لم يتعلمن أبدا القراءة والكتابة يتمّ تجاهلهن غالبا من قبل علماء الشريعة في حساباتهن في الميراث وفي ظروف الطلاق وغيرها من الأشياء المشابهة، لذلك كلما امتدّ الزمن احتدمت فكرة منع المرأة من القراءة والكتابة، بالرغم من معرفتنا أن إحدى زوجات النبي كانت تقرأ وتكتب، إلا أنه حتى اليوم مازالت المسألة تناقش في صيغة فتوى.

تهمة الخطيئة
تلفت المؤلفة إلى أنه “لا توجد أيّ إشارة في القرآن على أن حواء مسؤولة عن خطيئة الخروج من الجنة، أو كونها المتسببة في ارتكاب أولى خطايا العالم، حيث إن الإسلام لا يعترف ولا توجد به الخطيئة الأولى، إلا أنه في قصص الأنبياء كما يرد على لسان خطباء العامة وقاصّي الحكايات المليئة بالفانتازيا نجدها دوما مزينة بتفاصيل تحتل فيها حواء مكانا هاما، وبوصف جمال حواء وصفا أخاذا”.
وتشير إلى أن غلبة العنصر الذكوري على الأقل في الحياة العملية في كل الأديان والثقافات هو أمر لا ينكره أحد، وتضيف أن “الإسلام قد تسبب في الكثير من المعاناة للمرأة بسبب التفسيرات القرآنية التي ضاق أفقها على مرّ القرون، علاوة على ما لعبته العادات والتقاليد التي لا علاقة لها بالقرآن بتاتا، إلا أنها أخذت شكلا قرآنيا متزايدا فالكثير مما يسمّى إسلاميا اليوم ما هو إلا تقاليد وأعراف”.
وتؤكد شمل أنه على الجانب الآخر “حماية تصوراتنا عن الحرية التي تتبنى تفسيرات ليبرالية لكنها تجنح إلى أن تكون مجردة من المبادئ ونرى من خلالها العالم، ونحكم على العادات والتقاليد التي لا تثير إعجابنا وننعتها بالقديمة بل ونلعنها، فأي محاولة لنقل أيّ أفكار حداثية إلى العالم الإسلامي سيتم تفسيرها ببساطة من المسلمين على أنها محاولة جديدة من الاستعمار وسيتمّ رفضها وتنتج مقاومة متعنتة ضدّها”، وتوضح أنه ما على الباحث في علم الأديان إلا مقابلة الفكرة بالفكرة والحقائق بالحقائق.
وتقترح الكاتبة إجراء دراسة عن صورة المرأة في الأدب الإسلامي تساهم في تقريب الأفكار المتباينة؛ فلا صورة الحرملك في الأدب الإيروسي الداعر، ولا النوادر عن مكر المرأة ما يحدد ثقافة الإسلام، فمن يقرأ بعين فاحصة كلا من الأعمال الكلاسيكية بالعربية والفارسية والتركية وبالأخص الهندوإسلامية (أي الأردية والسندية والبنجابية) ستتكون لديه صورة مغايرة تماما؛ فإنه على عكس فما يجده في موضع لا يجده في مواضع أخرى. ومن خلال صداقتي بالعديد من النساء المسلمات لسنوات طوال، تعلمت الكثير عن الأبعاد العميقة، ولعل هذه الرؤية تساهم ولو بالقليل في إعادة الأحكام المسبقة إلى صوابها، إذ في فضاء الروحانيات يتلاشى الفرق بين الرجل والمرأة.
_______
*العرب

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *