*عبد القادر لحميني
عن اشتعال المنجز العربي وارتفاع سخونته بالطرح الإيديولوجي وابتعاده بكثير من العور والفضاضة المريبة عن الموضوعية باعتباره واحدا من الذين اشتغلوا على الثراث وكل ما هو هوياتي من الثقافة الشعبية ، يجيبنا الباحث عزيز العرباوي ،بالقطع ، بإن أغلب الأطاريح التي ناقشت التراث العربي الإسلامي بالخصوص، وبالضبط مناقشة النص الديني، هي أطاريح لها رؤية إيديولوجية تبتعد كثيراً عن الموضوعية العلمية التي تتطلب الابتعاد ووضع مسافة كبيرة بين الباحث وبين ما يبحث فيه، لكن هذا الأمر يغيب في العديد من الكتابات والأبحاث. وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن هؤلاء الباحثين يفشلون في هذا الامتحان لعدم قدرتهم على مواجهة ما يبحثون فيه، ومواجهة من ينتقدهم أو يهددهم. وحتى على المستوى الهوياتي فإننا نكون أمام غلبة الهوية الخاصة على الهوية الجمعية التي تتطلب تحقيق غاية تنقيح النص وتأويله حسب المصلحة العامة، فالشيعي مثلاً يبحث عن تأويل يوافق هويته المذهبية، والسني يفعل ذلك أيضاً، ومن هنا يغلب على أبحاثهم التوتر الفكري والاختلال المنهجي… ثم يضيف قائلا : صحيح أن هذه الدراسات عرفت حضوراً بارزاً في المدونة الفكرية العربية، وخاصة لدى اليسار العربي، لأنها حققت لهم رغبتهم في نقد الفكر الديني والخطاب الديني القديم، وهذا لا يمكنه أن يكون أمراً حاسماً في جعل هذه الدراسات منطلقاً يقينياً للقول إنها مصادر أساسية للنهل منها وجعلها في الصدارة دون غيرها. والسبب عندي هو أنها تنهل من الإيديولوجية اليسارية الموغلة في النقد اللاذع لكل ما هو ديني تحت يافطة محاربة التشدد والتطرف الدينيين، وهذا غير مقبول، إنها كباقي الدراسات قد اجتهدت في القضية وتركت بصماتها وحققت ما حققت من غايات منها: خلق جدال فكري كبير، ونقاش علمي وفلسفي مهم ترك أثراً واضحاً في الثقافة العربية ومنح العديد من الباحثين الجرأة على اقتحام هذا المجال دون خوف أو رهبة من ردود الفعل غير المنصفة، وهذا ما يجعلني أقول إن هذه المقاربات والدراسات استطاعت أن تفتح أفقاً للقراءة والبحث والنظر من جديد في الفكر، وهذه الرؤية لا تخص الفكر كفكر، بل تتعداه لترخي بظلالها الممتدة حتى على واقع النقد العربي الحديث، حيث يجدـ الباحثـ نفسه ، محاصرا، أمام أهوال وأمور عجيبة وغريبة، وهذا لا يعني أن النقد العربي كله غير جيد، هناك بالفعل العديد من الأقلام التي تركت بصماتها في إطار النقد الأدبي، واستطاعت أن تراكم تجارب ضخمة ومهمة في المدونة النقدية العربية. ويضيف؛ لكنني أنا هنا بصدد ظهور العديد من الأقلام النقدية التي تجمِّل القبيح وتقبِّح الجميل، بل تمنح (صكوك الغفران) -إن صح التعبير- لبعض المبدعين، وهذا ما يؤثر سلباً على المعرفة الأدبية التي نروم تحقيقها في مجتمعاتنا العربية ونجابه الآخر بها. يؤسفني القول إن بعض الكتابات النقدية صارت تمنح اعترافاً بالإبداعية لمبتدئين يخطئون في كتابة الهمزة، وهناك من الرواد في العديد من الأجناس الأدبية، وخاصة في المغرب، من يقدم مثل هؤلاء المبتدئين ويمنحهم شيئاً لا يستحقونه، وقد اعترف العديد منهم بهذا الخطأ، وتحسر عليه. أعود لمسألة موت المؤلف التي برزت في النقد الغربي على يد باحثين غربيين كرولان بارت الفرنسي، فأقول إن موت المؤلف لا يعني أن نطرده إلى الجحيم ونخرجه من تلك الفسحة التي يطل منها على قارئه وهي المتمثلة في نصه الذي أبدعه، فلو كان الأمر كذلك، فكيف يمكننا قراءة عمل سير-ذاتي مثلا؟ إن مسألة انتعاشة النقد العربي من عدمها، تتطلب منا وقفة متأنية وتفهماً واضحاً لأسباب تراجعه أو على الأقل لخروجه عن المرغوب فيه، واتكاله على المدح والهجاء، وليس الجزم بضعفه أو بموته أو فقط بتراجعه.. وبهذا يرى الباحث عزيز العرباوي، حضور المنهج في مقاربة العمل الأدبي ضرورة لها أهميتها الكبيرة في تحقيق أهداف الدراسة، وإلا غابت هذه القصدية وأصبح بإمكان أي أحد أن يكتب عن الأدب من منطلق خاص به، دون أن يتوسل منهجاً معيناً، ولذلك فالمنهج له أهميته ودلالته في الوصول إلى دلالة النص وتحقيق المعنى المرجو منه. أما المنهج الذي يتوسل به لتحليل النص الأدبي، فإنه ينحو إلى المنهج السيميائي لما له من أمكانية كبيرة ـ في نظره ـ في التأويل والتحليل والبحث عن دلالة الأشياء والتعبيرات، فهو منهج سلسل وغني بالمفاهيم المسعفة في التحليل، وجامع للعديد من المفاهيم والمناهج والنظريات ومتداخل معها من حيث المفاهيم مثل اللسانيات والبنيوية والنقد الثقافي والدلالة و… هذا المنهج من حيث كونه منهجاً متعدد المنطلقات التأويلية يسعفني في المقاربة النقدية للنص الأدبي، وهذا ما جعلني أختاره، وكتابي حول رمزية الماء في التراث، وفي معرض سؤالنا حول الرواية العربية، التي يتجاذبها وجها العملة ( السيرة)، من ناحية الشكل و من ناحية المضمون، أنها انتصرت في غالبها الأعم إلى سيرة ذاتية إما سرا وإما جهرا، يجيبنا الكاتب عزيز العرباوي بأن الرواية العربية الحديثة قد يقرأ فيها حضور المبدع وطغيان ذاتيته وجزء من حياته، وهذا ما يقلل من أهمية ما تطرحه من قضايا، أنا هنا لا أقول إن على الروائي أن يتجاوز ذاته في الكتابة ويصير كأنه معلق تلفزيوني في الرواية، لا طبعاً، وإنما عليه أن يبتعد قليلاً عن ما يكتبه ويضع مسافة بينهما، وإذا ما حضر في نصه فحضوره يكون انطلاقاً من مناقشته لقضايا ومواقف بأسلوب ولغة بعيدة عن الذاتية والشخصانية باستخدام الرمز والإيحاء، وهذا ما يرفع من قيمة ما يكتبه ويضعه في مكانة أفضل، وهذا ما يجعله يطرح السؤال /الإشكال. بصيغة مغايرة؛ كيف يمكننا أن نقتنع بأن الرواية العربية الحديثة تبتعد ما أمكن عن حقيقة الكاتب وسيرته؟ وما مدى تحقق الإبداعية فيها والبعد الاجتماعي العام وحتى البعد الثقافي؟
عطفا على ما سبق، يضعنا سؤال الباحث عزيز العرباوي حول أزمة الرواية العربية، أو الفكر العربي بشكل أوضح غير بعيد عن المطب الأول، العَلاَمة الأم، الهوية الممزقة،التي تجعل من الكاتب مغرقا في الذاتية سالكا السبل الملتوية للبحث عن أناه المفقود في شكل سيرة، هي أقرب إلى العزاء الإيديولوجي منها إلى شيء آخر، لا تحقق فيه الإبداعية الجمالية التي تحاول أن تركب في أرقى تجلياتها على الساكن و المسكوت، للفت الانتباه بعيدا عن البعد الاجتماعي والعمق الثقافي، إلا شزرا أو من وراء حجاب…
________
*غاليري الأدب