حواء والكتابة


*غادة بن صالح

( ثقافات )

الكتاب مرآة إذا نظر فيها القرد فلن يرى قديسا”
هكذا استهل جورج كريستوف لشتينبرغ حديثه حين سأل عن قيمة الكتاب،
لكن ماذا لو كان هذا الكتاب قد كتب بيد إمرأة؟؟
سيختلف الأمر حينها، وستنقلب نظرة المجتمع تماما، ولن يرى القرد لا انعكاس وجهه ولا صورة قديس ما، فقط سيصطدم بكل المحظورات التي تقيد المرأة في هذه المجتمعات المركبة. فالكتابة السردية النسائية في جل المجتمعات العربية هذا إن لم نقل كلها، تنظر دائما بنظرة متأهبة يسودها الشك، الريبة أحيانا، الحذر أحيانا أخرى، والرفض والتحقير أحيانا لما تكتبه النساء.
فلو اكتست المرأة بقليل من الجرأة حينها تفتح الأبواب الحمراء عليها، وتنصب جل الإنتقادات على المستوى الأخلاقي بوصف أن المرأة أم ومدرسة وكل تلك الطوبويات التي وإن رفعت من شأن دور المرأة في المجتمع إلا أنها جعلتها في نفس الوقت أحادية الدور الذي ينحصر في تربية الصغار والقيام بالواجبات، دونا عن كل تلك التجارب والأدوار الأخرى التي تعد من حق الرجل مطلقا.
إذ أنه من المتعارف عليه أن الكتابة فعل ذكوري بامتياز، وتعد الكتابة عند المرآة كمالية، يعتبرها العديدون لا ضروروة لها، أو يمكن الاستغناء عنها، بوصف أن أغلب الاعتقاد العام يتجه نحو التأكيد على أن كتابة المرأة تظل مرتبطة دائما بذاتها أحاسيسها، بوصفها تعتبر كائنا عاطفيا بإمتياز، وأن أغلب كتابات النساء الكاتبات تكون محاولة للتخلص من أعباء المجتمع وثقل وطأة التقاليد والعادات والأعراف أو إنعكاسا للعلاقة بالطرف الآخر مهما كان موقع المرأة في حياة ذلك الطرف، ابنة، أو زوجة أو أخت أو حبيبة أو عشيقة. 
بالإضافة إلى هذا الجانب الحسي، لا يمكن إنكار أنه في أغلب الكتابات النسائية نجد أن إنتاجات الكاتبات العربيات تتمحور بالأساس وغالبا حول ذاتية الكاتبة في حياتها العادية، وتكسي ما تكتبه في أغلب الأحيان بنظرة سوداوية وأحيانا سلبية، بوصف أن واقعها في مجتمع ذكوري، يفرض عليها أن تكون ضحية مضطهدة، أو مقاومة ثائرة، لكنها في الحالتين تنتهي بالتعبير عن استسلام للواقع يكون عبر نهاية مأساوية صادمة.
ففي الواقع كم الضغط والتعسف إن صح التعبير، المباشر وغير المباشر الذي تتعرض إليه المرأة في علاقتها بالبيت والعائلة والرجل والمجتمع والأخلاق وغيرها من الضوابط، يجعلها لا شعوريا تكتب كي تهرب من ذلك الواقع، وكي تكون الكتابة ممارسة وطريقة لحياة أخرى لا توجد إلا على الأوراق، من هنا يتحول دور الكتابة من أداة لإعادة تشكيل الواقع، إلى سلاح خفي في يد المرأة تشهره في وجه المجتمع الذي ما فتئ يصادر حقوقها في الوجود والتعبير بشتى الطرق.
لذلك تتحول المرأة إلى هدف لهجوم العديد من المحافظين، الذين ينتقدون ميلها إلى الى استخدام الجسد الأنثوي كموضوع مهيمن على كل إنتاجاتها الأدبية من شعر وقصة ورواية ونثر، ومن ذلك المنطلق يهاجمونها ككائن تفرض عليه طبيعته أن يلتزم بضعفه ورقته وأدواره المحددة الممنوحة من قبل الأديان والأعراف، فحواء تبقى حواء مهما علت، إذ يسبقها آدم في الوجود والتعايش مع العالم، وما وجدت هي إلا كي تكون تتمة له، وهذه التبعية المادية أفرزت تبعية معنوية التصقت بها لتشكل كتلة كبيرة من الحدود والعوائق في وجه أي إمرأة –مثقفة بالأساس-
فالكاتبة من وجهة نظر هؤلاء، تبقى إمرأة، والمرأة كائن ضعيف حسب تكوينها الفيزيائي، الذي يجعلها لا ترتقي لمرتبة قوة وقوة احتمال الرجل، وحتى ما تعانيه من آلام وإرهاق في وظائفها الطبيعية كالولادة لا يغفر لها فعل الكتابة إذ أن كل ذلك يعد من قبيل العقوبة لها على الغواية في بداية الخلق، ونظرية الغواية هذه تجعل من طهارة المرأة مهما كانت، مشكوكا في أمرها، والإدانة تسبق البراءة هنا في الحكم عليها.
وبوصفنا نتحدث عن المرأة الكاتبة هنا، يجب التأكيد على أن الأنر يصبح أصعب خاصة حين تتزوج المرآة حيث تخرج من السجن العائلي إلى السجن الزوجي الذي لن يرضيه أن تكون الزوجة أديبة وكاتبة ولها رؤية ونظرة مختلفة إلى العالم، ولن يطمأنه قطعا قدرتها على الانعتاق والتحرر وإعادة تشكيل الواقع حسب ما تراه هي لا ما يراه زوجها أو والدها، لذلك تتحول الكتابة فعلا خارقا للقانون، وتصبح المنظومة الزوجية هي الهيكل القضائي الذي يضمن الحفاظ على النظام وعدم التمرد على النواميس المعمول بها منذ قرون..
يقول منتسكيو، أن من يقرأ كثيرا تساوره الرغبة في أن يكتب”، والكتابة هي فعل تحرر وطريقة حياة، فلم تكون ممارسة هذه الشعائر الجميلة في التوحد مع الذات، ثم في إعادة خلق علاقة جديدة مع العالم، للبعض فرضا، وعلى غيرهم سنة؟
من المفروض أن الكتابة هي ممارسة ديمقراطية، لا تفرق بين جنس الكاتب أو لونه أو دينه أو معتقداته، الخط الأحمر الوحيد في الكتابة هو الرداءة، ذلك المفروض، أما ما نجده في الواقع فهو مختلف.
وفي الحقيقة، مع تطور الحركة النسائية في الفعل ورد الفعل والتمرد على التقاليد والعادات السائدة جعل العديدن ينظرون إلى كتباتهن محل نقد من جهة أخرى، ليس إلى دواتهن كنساء، بل إلى الموضوعات التي أصبحت مكررة، لكننا هنا نقف اما تعارض محير، إذ كيف يمكن لموضوعات الكاتبات أن تتغير إذا كان المجتمع لا يتغير؟
وكيف يريدون للمرأة أن تغير من نسق كتباتها المشبعة بالمطالبة بالحرية وإحترام الجسد الأنثوي، في حين أن العقلية الذكورية لم تتغير أصلا؟
إن المبدأ أن البحث عن الحرية هو أساس فعل الكتابة، لكن وجود الحرية هو وقود الإبداع، فلو كانت المرأة حرة فعلا، ولو توفرت لها كل الظروف التي تخول لها أن تكتب لأبدعت في خلق الجديد والطريف من الإنتاجات الأدبية التي تخلق لها بصمة قوية لا تنمحي في تاريخ الأدب، ولن تكون مجرد إنعكاس على ذاتية المرأة المقيدة أو المضطهدة، بل ستكون إنعكاسا لكل الإنسانية. 
على كل ولو أن الواقع المجتمعي يشبه سرطانا مستفحلا في الحياة الثقافية، إلا أن الكاتبات أو أغلبهن على الأاقل، أثبتن أنهن قد أعدن تجسيد أسطورة أطلس الذي حمل السماء على كتفيه من جديد، وكن أطلس في مواجهة كل تلك العوائق والظوابط والقيود التي سيجهن بها المجتمع، فكن بطلات العصر الجديد، مناضلات، مقاومات، والأهم خالقات.
الكتابة تبقى رغم كل هذه الأشواك التي يحف بها طريق المرأة الكاتبة طريقة وجود وطريقة حياة، وطريقة خلود، وربما يكون من الغباء أن يسعى الكاتب إلى الخلود في أرض تقترب من الزوال، لكن على الأقل، يبقى للكاتب إمتياز خلق اسم خالد في حياة فانية، ويقى للكاتبة شرف النضال من أجل أن تمارس حقها في الخلق وفي القتال من أجل وشم اسمها في تاريخ الأدب العربي، ولم لا الأدب العالمي.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *