دموع الجنة


*ربيعة المنصوري

( ثقافات )

وحدها كانت في البيت هذا الصباح ، سلمى وأحمد في المدرسة ورامي في مهمة خاصة كما قال لها وهو يقبل يدها بشغف كبير ، كانت نظراته حزينة وكأنه كان يودعها ، قبًل سلمى وأحمد وسلًم على جدته ثم بقي في غرفته وقتا قصيرا ، خرج بعد ذلك يبحث عنها في الشرفة الصغيرة حيث كانت تحتسي قهوتها الصباحية ، أحسته هذا اليوم مختلفا عما عهدت في ابنها البكر ، شعرت بالخوف وهي تتذكر هذه الأحداث …. كان يقف وراءها وهو يمسك في يده أوراقا وعلبة صغيرة ، استدارت نحوه في حنان كبيرا فقد كان قريبا منها ….
إلى أين حبيبي ؟ سألته في لطف ، وكأنها تفتح معه بوابة الحزن التي كانت تلمع في عينيه هذا النهار الجميل … احتضنها بحرارة ثم ابتسم قائلا : سأخرج أمي مع أصدقائي …. إذا تأخرت لا تنزعجي…أحبك كثيرا…
شعرت بالخوف يغمر جسدها النحيف ، فأخبار الحرب في تصاعد خطير ورائحة المدينة كانت كلها مختلطة برائحة الرصاص ، اليهود يقتلعون الأخضر واليابس ويقتلون كل من خالف أوامرهم ببشاعة كبيرة ، أين سيذهب رامي هذا الصباح …. ولماذا يودعها بهذا الوقار الكبير…
ـ أنت تعرف حبيبي أنني أعيش بنفسك أنت وأخويك ولولاكم لما عشت بعد استشهاد والدك…. كيف .. إلى أين أنت ذاهب ؟…احتضنها رامي بعينيه العسليتين وهو يبتسم قائلا : إنا نحترق أمي باحتراق القدس ، ألا تشعرين بالموت وأنت تجوبين المدينة ، ورؤية اليهود المعتدين ألا تجرحك ؟
ـ نعم رامي أشعر بهذا …. بل أكثر من هذا فنظرة واحدة من الشرفة تجعلني أكره أن أعيش تحت سلطة هؤلاء الأوغاد..
ــ أنت أمي علميتنا حب الأقصى وحب الصلاة في أركانه…
ـ لماذا تقول هذا اليوم ؟ إلى أين أنت ذاهب ؟ أتتركني هنا وحدي …
تذكرت علياء هذا برعب كبير، شعرت بالرهبة ، رامي مقدم على شيء خطير ، قد لن يعود اليوم …..أحست بالرغبة في البكاء فانهمرت دموعها على وجهها في تتابع … كيف يمكن أن تستشعر للحياة طعما بعد غياب ابنها البكر … الجنون سيحتل جسدها وستغمر مياه الموت أوطانه المهجورة ، من سيخفف عنها أنهار الحزن التي خلفها غياب زوجها ، كيف لهذا البيت أن تمتد أركانه إذا ما غاب عنه رامي ؟ …مشت نحو غرفته …. سريره …. مكتبه الخشبي الصغير ….أقلام وأوراق …كتب..قرآن……تأملت الغرفة في حزن محرق، صورة الأقصى المعلقة فوق المكتب… رائحة الموت تنبعث من عمق الغرفة ، هكذا شعرت وهي تجلس فوق السرير…لون الدم كان يغلف المكان … بكت بحرقة …
رامي…. خمسة وعشرون ربيعا ، بِكرها الذي أحبته حتى الموت ، عاشت تنسج خيوطه ، وتضحي من أجله ، أنيسها ومخرجها من حلبة الوحدة كلما دخلتها ، ومحتضن أخويه رغم صغر سنه، رامي …كيف لم تمنعه من الخروج اليوم بعد أن تأكدت من هول المقصد ..أكوام من الأسئلة وحشود من الأفكار حاصرت مخيلتها في عتاب قاس..كيف تركته يعانق الموت وهي التي لن تستطيع العيش بعيدا عنه ….
أسرعت نحو جهاز التلفاز ،لعلها تسمع شيئا عن أخباره … ماذا ستقول لسلمى وأحمد بعد رجوعهما من المدرسة … كيف ستواجه الأيام…. لماذا عاد الموت ليزورها مرة ثانية في شخص رامي ….القدس….رامي ….الحب الكبير…..نعم لطالما حملته صغيرا إلى أحضان المسجد ، ولطالما عمًقت في حب الوطن الجريح وكره المغتصبين ….الثمرة نضجت يا علياء ، زهرة أعماق رامي تفتحت وشذاها عطر المكان كله…
سمعت وقرا خفيفا على الباب ….فارتعش فؤادها الكسير ، أسرعت تفتحه لعله رامي نسي شيئا وعاد….وجه آخر كان يقف وراء الباب..نظرت إليه في تساؤل وحيرة لعله أخطأ العنوان أم تراه جاء يسأل عن رامي ….لعله صديق لا تعرفه….ما أكثر أصدقاء رامي…
ـ سيدتي .. أم رامي أنت ؟
ـ نعم أنا أمه …
ـ لقد تمت العملية بنجاح …. لقد نجح رامي أصاب الهدف ….هنيئا لك به….
العملية نجحت ، رامي انتصر ، ما الأمر ؟ 
ـ ورامي ….. صاحت علياء بصوت منهك…
ارتسمت الدهشة على وجه الصديق، وتلعثمت كلماته ثم قال بارتباك شديد : لقد كلفني أن أخبرك الأمر بعد العملية مباشرة وقال أنك ستفرحين كثيرا ….
قالت بصوت باك والألم يشق صدرها نصفين : أين رامي ….لا تقل أنه….
ـ بلا سيدتي لقد استشهد رامي هذا الصباح لقد نفذ العملية بنجاح كبير، ظننته أخبرك الأمر كله ، لقد كان يتكلم عنك كما لو كنت تعرفين كلً الموضوع … كان يقول أن حب القدس يجري في أوصالك دائما …..لقد أحببناك كثيرا من كلامه عنك…..احترمنا فيك روح الأم التي تفدي بابنها ….رامي كان يقول أنه تعلم منك حب الأقصى والتضحية في سبيله…. ونحن…
لم تكن علياء تسمع كلامه ، فقط وجه رامي كان يحاصرها ليقيها شر اللحظة و ليذكرها بكل كلام الأمس …. دموع كثيرة كانت تمنع عنها الرؤية ، ارتمت على الكنبة القريبة من الباب وأغمضت عينيها …أنين حاد كا يصدر عنها … صوت بكاء متميز ، لغة أخرى …دموع مختلفة انسابت فوق الوجه الممزق …. دموع من الجنة حيث كان رامي راحلا هذا الصباح ، دموع لا تذرف إلا على أرواح ربيعية ولدت ونشأت على نيران معتدية ، شربت من غدير الحب السامي ، حيث الأقصى وترابها ومدائنها وأرواح باعت نفسها فداء لوطن جريح … دموع من الجنة لا تذرف إلا على أرواح مثل روح رامي.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *