*بسمة النسور
قد يتفق معي معظم الزميلات والزملاء، من كتاب الزوايا اليومية والأسبوعية، وبلا أدنى تردد، بشأن المعاناة والمكابدة وحرق الأعصاب التي تميّز مهمة الكاتب الصحفي بشكل خاص، لا ريب أنها الوظيفة الأكثر إرهاقاً واستنزافا للنفس، بعد أصحاب مهن شاقة، مثل عمال المناجم والمعلمين، لا ينطبق هذا التوصيف، بطبيعة الحال، على الكتابة الأدبية، في حقول الشعر والرواية والقصة والمسرح، لأن لذلك النمط من الكتابة متعة قصوى، كونها كتابة حرة منفلتة غير مرتبطة بحدث أو زمان، بل هي فضاء إبداعي فسيح، مرتبط حصرياً بالطقس النفسي لصاحبها، الذي يحدد، منفرداً، لحظة الخلق والابتكار الخاصة به، على النقيض من الكاتب الصحفي، المطالب بالانتباه والتيقظ والمعرفة والمتابعة والإلمام بالتفاصيل كافة، وكبح أي تمرد للروح والسيطرة على المزاج الخاص، والتعالي على الأوجاع الشخصية والحفاظ على الجاهزية والحضور الذهني، وتحرّي الموضوعية والدقة، والتحلي بسعة الصدر طوال الوقت، لكي يظل قادراً على كسب ثقة القارئ، واحترامه وإعجابه ومتابعته، وكي يحافظ على مستوى منجزه الذي حققه بالعرق والضنى، وكي يظل اسمه جديراً بمساحةٍ فكريةٍ ثقافيةٍ معرفيةٍ أخلاقيةٍ إنسانيةٍ، ائتمنته عليها مؤسسات إعلامية، لديها دوماً إمكانية توفير بدائل عنه، حيث إن عدد الكتاب أكثر من الهم على القلب، كما نقول في الدارجة الأردنية. يحدث كثيراً أن تتعامل مؤسسات إعلامية، المفترض أنها عريقة مع الكتّاب، بأسلوب غير قانوني أو حضاري أو حتى إنساني، فتنال من كرامتهم، وتسطو على تعبهم، وتقلل من شأن خدماتهم، ولا تمنحهم حقوقهم المالية، ولا تقدر منجزهم الفكري. ثمة صحيفة أردنية وضعت فوق سقفها منذ أيام أعلى سارية في منطقة غرب عمان، في سياق احتفالها بعشر سنوات من الإنجاز، ويركز شعارها على حق المعرفة، سرحّت بالجملة مجموعة من الكتّاب المكرسين، أردنياً وعربياً، بعد أن خيّرتهم بين الكتابة على صفحاتها بالمجان أو المغادرة. المؤسف أن معظم المؤسسات الإعلامية في عالمنا العربي البائس على غير صعيد تتعامل مع الكتاب بشكل فوقي، باعتبارهم متسولين على أعتابها، من دون أدنى تقدير لخطورة الكلمة وأثرها في مسار حياة الشعوب، حتى إنها لا تعتبر ما تدفعه للكتاب أجوراً مستحقة، بل تسمى في عرفها الجائر مكافآت، ما يشي بفكرة الإحسان واليد الطولى، متجاهلا أن الكاتب مثلها تماماً يقدم، في النهاية، وبلغة رجال الأعمال سلعة للمستهلك، وهو يعيش من قلمه فقط، لا غير، ومن أبسط حقوقه الإنسانية أن يتناسب مستوى دخله، مع ما يبذله من جهد، وما يتناسب مع سعار الغلاء المتنامي بلا هوادة. المسؤولية شاقة وكبيرة، مهنياً وأخلاقياً، ولا سيما لمن يأخذ مهنته كاتباً على محمل الجد، ولمن يتعامل مع الكلمة بمسؤولية عالية وحرفية متناهية، حريصاً على التمسك بقيمه ومبادئه ومعاييره الأخلاقية الصارمة، غير القابلة للمساواة أو المهادنة، وهو المعرّض بحكم عمله لمغريات ومكاسب مادية، يتساقط أمامها صغار النفوس، وهم أكثر من أن يعدوا في سوق الكتابة الصحفية الراهن، المكتظ بالدخلاء المستسهلين والأدعياء والطارئين، علاوة على فئة الكتبة المأجورين من بائعي أقلامهم وضمائرهم المتلونين، المتسلقين بلا خجل على حبال سيرك السياسة المتأرجح، غير الثابت على قرار.
________
*العربي الجديد