*غسان كنفاني /تقديم واختيار – عبير زيتون
في 8 تموز عام 1972، مزقت سيارة مفخخة في بيروت جثته إلى شظايا ضائعة في دفاتر المخابرات الصهيونية، بعد أن تحول إلى مشروع فكري نضالي، في تمسكه بالدفاع عن حلمه الفلسطيني، حيث ترك صاحب «أرض البرتقال الحزين» إرثاً ثقافياً غزيراً… غسان كنفاني الكاتب المناضل، والروائي، والقاص، والرسام، والباحث السياسي، والتاريخي، والناقد العقلاني، وكاتب المقالات الساخرة باسم «فارس فارس»، ساهم تعدد اهتماماته في تشكيل بوصلة فكرية، وبناء قاعدة مشروع سياسي عروبي متقدم، لم يكتب له أن يكتمل، وإن كان لايزال يرابط في موقعه النضالي لدى النقاد والقراء، وقد بلغت أعماله ثلاثة مجلدات، وترجمت لعدة لغات، ونالت التكريم قبل استشهاده وبعده.
كنت أقول لذات نفسي: اصبر، يا ولد، أنت ما زلت على أعتاب عمرك، وغداً، وبعد غد، سوف تشرق شمس جديدة، ألست تناضل الآن من أجل ذلك المستقبل؟ سوف تفخر بأنك أنت الذي صنعته بأظافرك، منذ أسِّه الأول… إلى الآخر. وكان هذا الأمل يبرر لي ألمَ يومي، وكنت أحدق إلى الأمام أدوس على أشواك درب جاف كأنه طريق ضيق في مقبرة.
***
إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، إنها قضية الباقين المنتظرين بمرارة دورهم، لكي يكونوا درساً صغيراً للعيون الحية.
***
لقد حاولتم تذويبي يا سيدي، حاولتم ذلك بكل جهد متواصل لا يكل ولا يمل يا سيدي. هل أكون مغروراً فأقول بأنكم لم تفلحوا؟ بلى أفلحتم إلى حد بعيد وخارق، ألست ترى أنكم استطعتم نقلي، بقدرة قادر، من إنسان إلى حالة؟ أنا إذن حالة.. لست أعلى من ذلك قط، وقد أكون أدنى.
***
إننا دائماً نعطي الآخرين صفاتنا، وننظر إليهم من خلال مضيق من آرائنا وتفكيرنا، نريدهم أن يكونوا «نحن» ما وسعنا ذلك. نريد أن نحشرهم في جلودنا، أن نعطيهم عيوننا كي ينظروا بها، وأن نُلبسهم ماضينا وطريقتنا في مواجهة الحياة.. ونضعهم داخل أطرٍ، يرسمها فهمنا الحالي للزمان والمكان.
(رواية: موت سرير رقم 12)
***
اسمع يا فيلسوفي الصغير: الإنسان يعيش ستين سنة في الغالب، أليس كذلك؟ يقضي نصفها في النوم، تبقى ثلاثون سنة، اطرح عشر سنوات ما بين مرض، وسفر وأكل وفراغ… بقيت عشرون، إن نصف هذه العشرين قد مضت مع طفولة حمقاء.. ومدارس ابتدائية.. لقد بقيت عشر سنوات. عشر سنوات فقط… أليست هذه جديرة بأن يعيشها الإنسان بـ «طمأنينة».
***
كل زائر يجب أن يذهب إلى المخيمات، وعلى اللاجئين أن يقفوا بالصف، وأن يطلقوا وجوههم بكل الأسى الممكن، زيادة على الأصل، فيمر عليهم السائح، ويلتقط الصور، ويحزن قليلاً… ثم يذهب إلى بلده ويقول«زوروا مخيمات الفلسطينيين قبل أن ينقرضوا».
(أرض البرتقال الحزين)
كنت طفلًا آنذاك، وكنا نشهد دون أن نقدر على الاختيار. كيف كانت تتساقط فلسطين شبراً شبراً… وكيف كنا نتراجع شبراً شبراً.
***
كتب عليّ أن ألجأ مرتين إلى المنفى.. هارباً أو مرغماً على الفرار من أقرب الأشياء إلى الرجل، وأكثرها تجذراً في صدره: الوطن والحب..
***
سأظل انتقد: في حدود ما يستطيع صبري أن يكتب… والورق أن يحتمل… وعبر هذا الانتقاد سأزيد في ولائي للقضية التي نعيش جميعنا من أجلها… وسنموت وهي تنبض لما تزل فينا.
إنني أريد أن أتكلم عن الموت. عن موت يحدث أمامك لا عن موت تسمع عنه. إن الفرق بين هذين الطرازين من الموت، فرق شاسع لا يستطيع أن يدركه إلا من يشاهد إنساناً يتكمش بغطاء سريره، بكل ما في أصابعه الراجفة من قوة كي يقاوم انزلاقاً رهيباً إلى الفناء.
***
هل هناك ما هو أكثر رعباً في حياة إنسان كان يخبئ الحب في جيبه كسلاح أخير للدفاع عن نفسه؟
(القبعة والنبي)
***
إن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها، كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكل حقه في الوجود على حسابهم، وهي التي تبرر له أخطاءه وجرائمه.
(عائد إلى حيفا)
***
إن هذا«الاحتقار» للنثر يدفع ببعض كتابنا إلى صنع طائرة شراعية يسمونها«قصيدة». كأن المشكلة تكمن في التسمية، وأنا شخصياً لا أعرف لماذا لا يكون النثر أحياناً وغالباً أروع من الشعر، وهل من الضروري أن يقطع الكاتب سطوره إلى أنصاف ثم يطلق عليها اسم الشعر؟ وهل تستطيع التسمية أن تعطي الشعر صفة النثر أو النثر صفة الشعر؟ إذا كان الأمر كذلك فكيف استحق ماركس وإنغلز كل ذلك المجد مع أن«البيان الشيوعي» ليس قصيدة؟».
(رواية: أم سعد)
أنت تريد أن تحكي عن المقابل الآن؟ من هو الذي رتب لكم عالمكم على أساس أن السعادة تقف مقابل الشقاء، وأن الجزاء يقف مقابل العمل؟ من هو هذا؟ إن كل شيء في العالم يقف في صف واحد، لا شيء مطلقاً يقف مقابل الشيء الآخر.. هل تفهم؟ إن يومك، بكل ما فيه، هو التعويض الوحيد لذاته.
(رواية: الباب)
***
إن الطب يستطيع أن يسد ثقباً في الأمعاء، لكنه لا يستطيع مطلقاً أن يجد أجوبة ليسد بها ثقوباً في التفكير.
***
لو حمل كل رجل في الجليل عشرين فشكة، واتجه إلى قلعة صفد لمزقناها في لحظة واحدة. عن الرجال والبنادق.
***
إن الحقائق الصغيرة لم تكن في البدء إلا الأحلام الكبيرة، والمسألة مسألة وقت ليس غير، كذلك تبدأ القصص وكذلك تنتهي.
***
ربما كانت تجربة الأدب الصهيوني هي التجربة الأولى من نوعها في التاريخ، حيث يستخدم الفن في جميع أشكاله ومستوياته للقيام بأكبر وأوسع عملية تضليل وتزوير تتأتى عنها نتائج في منتهى الخطورة.
(كتاب: في الأدب الصهيوني).
***
الفكرة إن وُلدت ليس بالوسع التخلص منها، بالوسع خيانتها فقط. لذلك ترى كم هو سهل بالنسبة للكثيرين أن يضعوا الأفكار فوق رؤوسهم كالقبعات.
***
الإنسان الذي يحس أكثر من اللازم، خير من الإنسان الذي لا يحس بالمرة.
«سأظل أناضل لاسترجاع الوطن، لأنه حقي وماضيّ، ومستقبلي الوحيد.. لأن لي فيه شجرة، وغيمة، وظل، وشمس تتوقد، وغيوم تمطر الخصب.. وجذور تستعصي على القلع».
«من رسائل غسان كنفاني لغادة السمان».
___
*ملحق الاتحاد الثقافي