*حازم شحادة
خاص ( ثقافات )
على سرير أبيضٍ كانَ العجوزُ ممدداً بعدَ أن أسعفهُ بعض الرجال صباحاً إلى المستشفى.
حينَ رأتهُ الطبيبة المناوبة وحيداً ولمّا يأتي أحدٌ كي يزورهُ تسرّبَ إلى قلبها عطفٌ مضاعفٌ تجاههُ فراحت تهتمُ به أكثر.
بالقربِ من سريرهِ وضعت مزهرية انتقت لها باقةً مميزةً من الوردِ ثم بدأت تعتني بنظافتهِ فتمسحُ قدميهِ وتبلّلُ جسدهُ بقطعة قماشٍ معقمةٍ ريثما يصحو من غيبوتهِ التي دخلت يومها الخامس.
وبينما كانت تقيسُ له الضغط عصر يومهِ السادس فتحَ العجوزُ عينيهِ ونطقَ ثلاثة أسماءٍ ثم أغفا حتى المساء.
عادت الطبيبة إلى غرفتهِ لتجده جالساً يحاول أن يدخنَ سيجارة طلبها من أحد زوار المرضى.
تدخلت وأوقفتهُ ثم عرفته بنفسها وشرحت تفاصيلَ ما حدث منذ اللحظة التي أحضروه فيها.
– أليسَ عندكَ أولادٌ أو أهلٌ ليزوروكَ هنا يا عم؟
انحنى الكهل شابكاً يديه فوق رأسه ومع تنهيدة تهد جبلاً أجاب:
– بلى لدي
ثم أخرج من جيب معطفه المهترئ المعلقِ خلف باب الغرفة ثلاث أوراق نعي وراح يقرأ:
– الشهيد محمد، الشهيد فاطر، الشهيد قيس.
صمت قليلاً ثم أضاف:
ـ أمهم تبعتهم فلم تقو بعدهم على الحياة أما أنا..
وصمت مجدداً ثم قال:
ـ أرجوكِ أيتها الطبيبة دعيني أدخن سيجارة.
لم تجد كلاماً يسعفها فانفجرت بكاء وعويلاً كأنها أخت الشهداء الثلاثة.
مذ دخل هذا العجوز المشفى وحيداً شعرت بشيء نحوه وها هي تكتشف أنه أب لثلاثةِ شهداء سقوا بدمائهم تراب سوريا وها هو والدهم وحيداً، مريضاً، فقيراً يجلس على سرير متسخ في مشفى حكومي.
صارت تعتني به أكثر من قبل وتحضر له الطعام من منزلها حتى أنها اشترت له ملابس جديدة عوضاً عما كان يرتديه.
المزهرية التي وضعت فيها باقة من الزهر كانت تجدّدُ لها الماء كلّ صباحٍ وتحضر وروداً جديدة.
ذات صباحٍ..
وكان الغيم يملأ الأفق دخلت غرفة العجوز لتطمئن عليه لكنها وجدت أنه لم يستيقظ بعد.
أزاحت الستائر ليدخلَ قليلٌ من الضوء وسعلت أكثر من مرة غير أنه لم يستيقظ.
اقتربت أكثر وأكثر..
راقبت تنفسه..
لا شيء.
كان العجوزُ قد فارق الحياة ويداه قابضتان على الأوراق الثلاث وثمة ابتسامة غامضة على طرف شفتيه كأنها آخر كلمات الشكرِ لها.
حدث هذا في سوريا ذات حرب.
______
شاعر وكاتب قصة قصيرة من سوريا