بصمات أصابعي العشر


*ياسمينا سعد


خاص ( ثقافات )
لم تختلف بطاقة الهوية القديمة عن الجديدة، سوى في حجمها الذي على قياس كل بطاقة أخرى ممغنطة، كبطاقتك المصرفية مثلاً، التي يمكنك أن تحصل بواسطتها على مالك المخزون في أقبية المصرف، في كل وقت.
أيضًا، ذاك الاختلاف الجذري الذي أسقط عنوةً مذهبك، واكتفى بذكر المحلة أو القرية، متجاهلاً تمامًا عبقريتنا في استنتاج المذهب أو الطائفة من الاسم أو المحلة.
حين اضطررتُ لتجديد بطاقة هويتي، أسوةً بالسواد الأعظم في وطني، طُلب مني أن أبصم بأصابعي العشر، بدقة متناهية، كي تكون الخطوط واضحة، كوضوح وجودي على الأرض. ولم يُزِل الحبر الكحلي عنها سوى مرات عدة من الغسيل المبرح.
زال الحبر، وعادت يداي نظيفتين، إلا مما علق بهما من شعور بلا جدوى الخطوط.
أن تبصم بأصابعك العشر، من دون أن ترتجف يداك، أمر سهل. ها أنا أنال هويتي، من دون ذكر المذهب، يا لفرحتي! سأتمكن منذ الآن من العبور على كل حاجز قد يصادر فجأةً أو سهواً هذا الشارع أو ذاك، نتيجة مناسبة مذهبية ما. أعبر الحاجز من دون أن ترتجف يداي وتعلق غصة الخوف المرّ في حلقي.
كيف يمكنك أن تمحو شعورًا بلا جدوى الخطوط، حين تتربص بكَ ذاكرة عاهرة، على مفرق طريق في ليلٍ موتور؟ حين يكون السؤال الأول: “إنت من وين؟”، فتدعو أن ينقذك غباؤك البريء. تردّ بصوت مرتجف: “أنا من لبنان”.
لن تشفع لك الإجابة الحمقاء هذه، فتنهال كعوب البنادق على سقف سيارتك، وتسمع من يقول: “أنا كمان من لبنان. شو عم تستغبيني؟ صفّي على جنب”.
كيف سيفهم أنك بَصمْتَ بأصابعك العشر على أنك لبنانيّ؟ وأن هذه الأصابع لم تسأل يومًا عن مذهب الجريح الذي كانت تسعفه تحت وابل من القصف، ولا عن مذهب القتيل الذي ستحمل خبره إلى أهله وما تبقى منه من أشلاء؟
في هذه اللحظات، ما جدوى الخطوط الواضحة؟ وما جدوى الأصابع العشر المغمسة بحبر كحليّ، بروية ودقة، كي لا يختفي وجودك على لائحة هذا الوطن العظيم؟
ليس بإمكانك أن تمرّ ببطاقة هويتك الممغنطة، بسهولة، على أي حاجز طارئ، يقف عليه أشخاص يحملون بطاقة الهوية نفسها، ورأياً مختلفاً ينفث من أقبية المذهبية؟ ليس أمر بطاقة الهوية سهلاً كبطاقتك المصرفية ومالك المركون في الأقبية المصرفية.
ها هي الأقبية، ما عادت تخبئ محتوياتها خشية الاتهام بالطائفية. صار لها عيون واضحة تعلن عدوانيتها بطرفة عين، وتنشر رواسبها في عقول الأبناء الذين سيبصمون بأصابعهم العشر، للحصول على بطاقة هويتهم التي أُسقط منها المذهب عنوة. لن تتعب تلك الأصابع بغسيل مبرّح كي تزيل الحبر الأحمر الهاجع في أقبية الحقد الموروث، فهي تبدعه وتنقّب عنه في كل وقت تريد، متجاهلةً أن الوطن يتسرّب بدقة وروية من خطوط البصمات التي لا جدوى لها.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *