محيي الدين كانون*
خاص ( ثقافات )
ــــ تَعِبْتُ كثيراً …أتمنّى لو في مقدوري أن أضعَ حداً لحياتي … !!
تلك الجُمْلة الوحيدة الأثيرة لديها ، لا تمِلَ من تكرارها حين يَهلٌ الصٌبْحُ بتباشيره الفضْيَة أو حين تتقدّم جيوش الظٌلْمة في المساء .
وفي هذا المساء الخَريفي المُلبّد بالغُيُوم غَمْغَمَت بنفس العِبارة في خاطرها ، تمنَت الموت ، وهي تنشٌ ذيْلها البَنْدُولي يمنة ويسرة بينما كان (حازم ) مُتجّها صوب الإسْطبل يتأملها بعينين دهشْتين ، لاحظ أنّ البقرة الجميلة ليست على عادتها متكئة فوق قوائمها مطمئنة تلوك طعامها اليومي على مهْل ، ولم يلْحظ حركة أحد فكيها ، ولم يتبد لسانها العريض ، رآها جامدة ساكنة في وقفتها كأنها تمثال مصنوع من الحديد الصلد ، هالَه الحُزْن الكثيف الغائر في عينيها الكبيرتين الجميلتين ، وأحسّ أنهما على وشك أن تنهمرا بالدمع السخي .
كان( حازم) يُحبّها كثيراً ، ويُحبٌ حليبها ـــ وقد عرف أن الحليب مادة غذائية أساسية لكل المخلوقات على وَجّه الأرض ـــ ، ولسوادها وبقع البياض على وبرها ، كان كثيراً ما يَظنٌ أنّها نفس البقرة التي تظهر في دعايات الحليب والقشدة ، وأنواع الجبن في القنوات الفضائية .
في البداية لم تحس البقرة بوجود ( حازم ) ، وعندما انتبهت لحضوره خلْف السّياج تكلّفت ابْتِسَامة حَزينة ، واقْتَربت مِنْه أكثر ، وهي تحاول أن تهشّ لَه ، لفت حُزْنها وجمودها انْتِبَاهه مرّة ثانية بِصورة أكثر قَتَامة من امتداد مشهد الأفق الخَريفي المُلبّد بسحب داكنة راسخة ، ومن بَلْل الأرض المنبسطة تحت قدميه حتى نهايات المُرُوج الخضراء ، سألها :
ـــ ما بك ؟!
وارت دموعها ، وهزّت رأسها من أسفل إلى أعلى ثم قالت بصوت متهدج :
ـــ فقدتُ وحيدي ، والأكبر جُرّ إلى السّوق .
أخد حازم يتأمل في انحراف قرنيها إلى أعلى قليلا ، واندهش كيف تنبت القرون فوق رؤوس البقر ؟ وعندما همّ أن يحْكِي لها هو الآخر عن فقدانه لأخيه الصغير، بادرته بتنهيدة طويلة وخليط من الدمع والحزن المكتوم .
كانت البقرة الجميلة تحب (حازم ) ؛ لأنه كان الوحيد الذي يتكلم معها ، وكان دائما يزورها قبل المرْعى وبعد المرْعى . ومن عاداته كان يقف متأملا مشدوها في اهتزاز ذيلْها ، وفى تأرجح ثدييها الثقيلين الكبيرين ، وممّا كان يُدهشه فيهما أكثر كيْف نبتت هذه الأصابع الكبيرة كأصابع اليد الواحدة المفتوحة ؟! …يتحدث إليها فتسمعه ، وتتحدث إليه فيسمعها حتى صارت بينهما ألفة يومية ، وعندما لا يلتقيان يحس كلاهما بالغياب والفقد ، هي تدمع لِغيابه على أمل لقائه قريبا ، لأنها مقيدة بالسلاسل فلا تستطيع البحث عنه في بيته والسؤال عنه ، وهو كذلك عند غيابها يحس بالاشتياق إليها ، فيتفقد لونها المرقش بالبياض والسواد ، واهتزاز ومناوشة ذيْلها العَجيب ، كَمَا يتفقد أكثر لسانها الكبير الذي يحيره كيف يمكن لها أن تدسه كُلّه في فمها ؟!
قطعت البقرة الجميلة حبْل الصمت بينهما بِتَنْهيدة طويلة ، وآهة مُفْعَمَة بالأسى قائلة :
ـــ نحن البقر …يا حازم ، نعاني من أشياء كثيرة .
نظر حازم يَمنة ويَسرة ، يريد أن يستوضح قولها الأخير أكثر عن طريق إيماءة رأسه ، ونظرته المندهشة لكامل كيانها الساكن الجامد . فما كان منها إلاّ أن تردّ عليه بطريقتها ، وقد أخذت تهز ذيلها بِعَصَبيّة وتَرْمقه بعينين واسعتين تُقَطْران عَسلا من العطف و الحنان قائلة :
ـــ نحن فصيلة من الحيوانات مدعاة للضحك والبكاء .
سألها باندهاش استنكاري :
ـــ كيْف ؟!
ـــ أحدهم أراد بيعي ، والآخر رأى ذبحي ، أما الأخير فيطلب منّي الحليب فقط دون أن يقدم كفاية من المرعى والماء .
ولم تنْتظر منه تعليقا على جُمْلتها الأخيرة ، فأضافت :
ـــ تصور ــ يا حازم ــ يصفوننا بأننا بقر للحليب والمرعى ، وبقر للذبح والسلخ … ومن المفارقات في ( هولندا ) يرفهوننا بسماع الموسيقا ، وفى الهند يقدسوننا ، بينما تبلغ أحيانا معاملة البشر لنا إلى حد الجنون فوصلنا إلى حالة يسمونها ( جنون البقر ) .
تجاوب (حازم ) معها في كل كَلِمة قالتها ، وعلّق حزينا :
ــــ وَمُصارعة الثيران ….!!
ـــ لم تدعه يكمل جملته ، هزّت رأسها الكبير ، وحرّكت ذيلها كَمِنَشّة ، وهى مستغرقة في ضحك متواصل :
ـــ إنها حكاية لا تليق ــ وسط التهريج والهياج البشري ــ حيث يكون قتل أبناءنا مُتعة وفُرجة بشفرة سيْف حادّة ، وبقطعة قُماشة حمراء قانية .
ضحك (حازم )..فضحكت معه بكامل كيانها ، وقد لاحظت أن حزنها قد تبدد بِمَعيّة (حازم )..وعلقت بصوت عال ضاحكة :
ـــ ومع كل ذلك ــ يا حازم ــ سوف أعطي الحليب للجميع ، وخيرعزاء لنا أن يتاح لنا صديق مثلك يزورنا ويسمعنا .
* كاتب وأديب من ليبيا .