أحمد دحبور المنشد العذب للتغريبة الفلسطينية


*شوقي بزيع


ليس لأنه يرقد الآن على سرير المرض، أو لأنّ كليتيه توقفتا تماماً عن العمل، أكتب الآن ما أكتبه عن أحمد دحبور. لا بل إنني لا أحتاج إلى عاطفة مضافة أو شعور متأخر بالذنب كي أنصف تحت وطأتهما أحد أكثر الأصوات الفلسطينية صلة بالموهبة المتوقدة والفوران الداخلي والانتشاء الطفولي بجمال اللغة. فهي ليست المرة الأولى التي أعبر فيها عن تفاعلي القلبي والذهني مع صاحب «طائر الوحدات» و»بغير هذا جئت» وغيرهما من الأعمال. لا بل إنني، حين رغب الصديق ربيع جابر مرة في جعل أدب المراسلة بين الكتاب باباً ثابتاً من أبواب ملحق «الحياة» الأسبوعي، آثرت قبل سنوات أن أكتب إلى أحمد دحبور العائد إلى رام فلسطين رسالة مطولة أستعيد عبرها فصولاً من صداقتنا القديمة التي تعود إلى الفترة التي سبقت الحرب في بيروت السبعينات، ومن ثم لقاءاتنا في تونس وعمان قبل أن تنأى بنا الأماكن وتباعدنا صروف الدهر. وما زلت أذكر بالكثير من الحنين أمسيته المؤثرة في كلية الآداب قبل أربعة عقود من الزمن، بقدر ما أذكر جلسات المنادمة والظرف التي جمعتنا في تلك الآونة ومعنا الصديق الشاعر حسن عبد الله، وذلك العشق الاستثنائي لمدينة حمص التي لفحت الشاعر برياحها المجنونة واستعاراتها التي لا تنضب, قبل أن يغادرها إلى منافي أخرى.
على أن الصدق مع النفس والالتزام بموجبات الموضوعية يحتمان علي الإقرار بأن شعر أحمد، على أهميته، ليس وحده ما شدني إليه، بل تلك العذوبة الرقراقة في روحه وذلك التهذيب الحيي في سلوكه، يضفرهما معاً قدر من التواضع النبيل قلّ أن نجده عند الشعراء والمبدعين والمشتغلين بالفن. ولعل هذا التواضع بالذات هو الذي صرف الشاعر عن اللهاث وراء النجومية والاشتغال على التلميع اليومي لصورته في وسائل الإعلام، على رغم كونه يقف في الطليعة بين الشعراء الفلسطينيين والعرب، وهو الذي رأى فيه محمود درويش ذات يوم مستقبل الشعر الفلسطيني وعلامته الفارقة. وإذا كان للمرء أن يستغرب بشيء من التوجس إصدار الشاعر لأعماله الكاملة، وهو لم يتجاوز السابعة والثلاثين، عبر السلسلة الحمراء الشهيرة التي تولت دار العودة إصدارها للكبار من شعراء الحداثة العرب، فإن هذا الاستغراب لا بد إلا أن تخف وطأته حين يلاحظ القارئ أن صاحب «كسور عشرية» بدأ منذ السادسة عشرة بنشر قصائده في كبريات المجلات والصحف العربية، وأنه أصدر مجموعته الأولى «الضواري وعيون الأطفال» وهو لا يزال في السابعة عشرة من عمره، في حين أن القصائد التي تضمها المجموعة قد كتبت قبل ذلك بردح من الزمن. إلا أن قيمة تلك المجموعة لا تتمثل في حجم الكشوف التعبيرية والرؤيوية التي اجترحتها، بل في ما تكشف عنه من «ضراوة» الموهبة ونقاء الفطرة وسلامة اللغة والإيقاع عند دحبور الذي لم يتردد، وخلافاً للكثيرين، في الاعتراف بأنه كان في تلك الفترة واقعاً تحت سطوة خليل حاوي وإيقاعاته المتماثلة وأسئلته الحضارية وقلقه الميتافيزيقي.
لكن تجربة أحمد دحبور لم تتلقف مياهها من مصدر واحد، بل من مصادر كثيرة متصل بعضها بالطفولة وحكايا الأم والسير الشعبية، ومتصل بعضها الآخر بالتراث الشعري العربي منذ عصوره القديمة، فيما ستظهر في مجموعته الثانية «حكاية الولد الفلسطيني» ترددات مختلفة من أصوات الرواد، قبل أن ينجح الشاعر في هضم قراءاته ومصادره المعرفية المختلفة وامتلاك أسلوبه المميز الذي يوائم بين الالتحام بقضايا شعبه ومكابداته وتضحياته من أجل الحرية، وبين المغامرة الجمالية والأسلوبية التي يمنعها الصدق والتفجر الداخلي الحار من التعسف والشطط التأليفي. مدركاً حراجة المأزق الذي يواجهه الشعراء في ظروف صعبة كهذه، يركز الشاعر في مقدمته لأعماله على العلاقة الملتبسة بين الوظيفي والجمالي في شعر «الالتزام» الوطني والثوري فيقول: «إذا أراد الشاعر أن يكون وطنياً أو ثورياً، وهذا حقه، فليصفّ هذا الأمر مع نفسه، وستأتي قصيدته ساعتئذ بما يرضيه. أما إذا أمر القصيدة أن تكون ثورية، فسوف تتحدث قصيدته عن الثورة من دون أن تدخلها».
ولأن ما يجعل الشعر شعراً ليس سؤال «ماذا نكتب» بل «كيف نكتب»، فقد عرف الشاعر كيف يضرم النار تحت الموضوعات التي تحولت عند غيره إلى رماد، واضعاً قلبه وأعصابه ومعرفته الوثيقة باللغة ونزوعه الغنائي الحميم في خدمة نصوصه التي تجعل القارئ منقسماً بين مكامن الوجد وحرقة الأسئلة الممضة من جهة، وبين نشوة الشعور بطراوة الأسلوب وليونة اللغة ورهافة الإيقاع من جهة أخرى «ويا جَمل المَحامل دربنا رملٌ وأنت المبحر العدّاءْ/ تهجيناك في كتب القراءة في طفولتنا/ فكنت سفينة الصحراءْ/ ويوم على شفير اليأس كنا، جئت تصطكُّ/ فيا جمل المحامل سرْ بنا/ وبإذن حب الأرض لن نشكو/ سيسقط بعضنا والشوك محتشدٌ/ سيُحرق بعضنا والشمس حاميةٌ/ ولكنا… متى حان الوصول وعرّشت حيفا على الأجفانْ/ سنحضر جوعنا الدهري للدمع الحبيس ونفْلت الأحزان». وحتى في القصائد ذات النبرة العالية أو تلك التي حاكت النموذج المعمم الذي «فرضته» الواقعية الاشتراكية على الشعر في حقبة من الحقب كان أحمد دحبور قادراً على حقن نصوصه السياسية والوطنية بأمصال البوح الحميمي الذي يغرف حرقته من أكثر ما في التراث ارتباطاً بالمأساة، قبل أن يتخذ شكل أمواج حارقة من الشجن المتواصل «يا كربلاء تلمّسي وجهي بمائك تكشفي عطش القتيل/ وتريْ على جرح الجبين أمانة تمْلي خطاي/ وتريْ خطايْ/ قيل: الوصول إليك معجزةٌ/ وقيل: الأرض مغلقةٌ/ وقيلْ…/ وذكرت أنك لي/ وأن الأرض تأكل من ثمارك ما عدايْ/ فأتيت يسبقني هوايْ». وإذا كانت قابلية النصوص للحفظ ليست بالضرورة معياراً لجودتها وتميزها، فهي بالمقابل ليست رديفة للتهافت والضحالة، وإلا ففي أي خانة يمكن أن نضع نصوصاً لامرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام والمتنبي، بل ونصوصاً موازية للسياب وأدونيس ودرويش وغيرهم، يحفظها الناس عن ظهر قلب، ويرون فيها تمثلاً رمزياً لوجدانهم الجمعي واختباراتهم الحياتية والوجودية. ودحبور من هذه الزاوية هو واحد من القلائل الذين لا نتقصد حفظ أشعارهم بل نجد أنفسنا محمولين في غير مناسبة وظرف على تكرار بعضها، كأن نردد في معرض الحديث عن وطأة الزمن «نشحن العمر ثلاثاء ثلاثاء ونلقي حطباً في الذاكره/ لتسير القاطره»، أو في معرض النقد الذاتي وإبعاد القضية الفلسطينية عن شبهتي القداسة والأسطرة «ونعرف أن للفرس الفلسطيني حصته من العاهات»، أو في معرض الاحتجاج على مساومات السلطة وتنازلاتها «صاحبي حاول ملكاً/ ناقصاً أو بين بينْ/ وأنا حاولت عكا/ فهزمنا مرتينْ».
ستأخذ تجربة أحمد دحبور في ما بعد العديد من الأشكال والتحولات التي يُظهر فيها قدرات عالية على مستوى الدمج بين أساليب السرد والحوار والمسرحة والخروج من الصوت الغنائي الواحد لمصلحة الأصوات المتداخلة والبناء المركب، أو الإلحاح على التقفية الداخلية وترشيق القافية توسيع البحور والمزج في ما بينها. سينقطع الشاعر إلى قلقه وصمته، أو ستحرد شياطينه في بعض الأحيان، وسيفاجئنا في أحيان أخرى بمقاربة للشعر مغايرة لما سبق إنجازه. وحين يفترض أن ثمة من يسأله عما إذا كان راضياً عن هذا الإنجاز، يستعير للإجابة عنوان واحدة من أجمل قصائده، قائلاً بخفر الأصلاء من المبدعين «هيهات… لكني أَعدْ».
______
*الحياة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *