في مديح البطء


*نجوى بركات


كشف عالم الأحياء، نيل شوبين، في كتابه الذي تحوّل إلى حلقات مصوّرة بعنوان “السمكة التي فيك”، أنّ لتشريح الإنسان جذوراً عميقة في الماضي التطوّري، وأنّ بعضاً من ملامحنا الأساسية ترجع إلى سمكةٍ تُدعى تيكتاليك، وجدها شوبين في القطب الشمالي الكنديّ. السمكة الغريبة هذه أتت نتاج مرحلةٍ انتقاليةٍ، تحولّت فيها الزعانف إلى ما يشبه اليدين، ما سمح بالانتقال ما بين المياه واليابسة، وبتنفّس الهواء. تيكتاليك، يقول العلماء، هي في أصل كل الحيوانات، وصولاً إلى النسخ الأولى من الإنسان، ومن ثم النسخة النهائية، أي هومو سابيانس وما بتنا عليه. كم عمر هذا التحوّل الانتقالي؟ 350 مليون سنة، مع الإشارة إلى أن كل مرحلة من مراحل التطور تُقدّر بملايين السنوات. تردّنا اكتشافات كهذه إلى معنى الزمن. أساسُ كلّ تحوّلٍ ينبغي قياسه بوَحدةٍ هي البطء، لا السرعة. البطء في أساس كل تطوّر، كل تقدّم، وكل تغيير عرفته البشرية منذ لحظة الصفر، وصولاً إلى زمننا هذا، حيث انقلبت المعايير ليصبح قيمةً سلبية، رديفاً للتقهقر، للهبوط، للتخلف وللتدهور. 
اليوم، تعيش الكرة الأرضية إيقاعاً جهنّمياً، تبجيلُ السرعة في أساسه، وتقديمُها قيمةً إيجابية مطلقة، وشرطاً لكل نموّ وتطوّر. سرعة في الإنتاجية، سرعة في الاستهلاك، سرعة في العمل، في الانتقال، في التوزيع، في شنّ حربٍ وإنهائها، في إقامة العلاقات. هذا كله على إيقاع لازمةٍ وحيدةٍ تردّدها البشرية جمعاء: “لا وقت لدي”، أو “ينقصني الوقت”، أو “لا متسّع من الوقت”. وإن أجابنا أحدُهم بضرورة الإبطاء وإعطاءِ وقتٍ للوقت، أوحى إلينا بالغضب أولاً، وبالاستهزاء ثانيةً، فلا بد أنه من أتباع تبنّي فلسفاتٍ قديمة، القيام بتمارين يوغا، أو تعلّم تقنيات التركيز والتأمّل وإفراغ الرأس من كل المنغّصات. 
في ثمانينيات القرن الماضي، برز تيار حمل اسم “سلو” (slow) أو “حركة البطء”، شكّك بفوائد السرعة، معيداً التأكيد على فضائل البطء. لم يكن هدفه دعوة الناس إلى اعتماد إيقاع بطيء في حياتهم، وإنما البرهان على أن تحقيق حياةٍ أفضل يتمّ من خلال إقامة توازن، ما بين السرعة والبطء. منح قيمة للوقت وللبطء بغية التحكّم بإيقاع حياتنا، واستعادة الحرية على وجه الخصوص.
في مؤلّفه “مديح البطء” الذي نُشر عام 2005 وترجم إلى 30 لغة، وكذلك في “البطء، طريقة الاستعمال” الذي تلاه، يقول كارل هونوريه، وهو الصحافي الكنديّ وأحد روّاد “حركة البطء”، إن الفعالية ليست بالضرورة رديفاً للسرعة، وإنه من الخطأ أن نضع الصبر والبطء في مصافّ الكسل والضعف. بل العكس هو الصحيح، ذلك أن البطء يتطلّب دقةً وأخذ مسافةٍ، وهو يمنح الآليات الجماعية والمواطنية مكانتها. بإمكانه أن يساعدنا على تطوير طريقةٍ جديدةٍ في رؤية العالم، التفكير به وتنظيمه، مدرجاً أمثلةً تفيد في حل مشكلاتٍ اجتماعية، كإصلاح السجون أو النظم المدرسية، كما في حلّ مشكلاتٍ فردية من خلال مقاومة طغيان “الفورية”. 


أما الروائي التشيكي الأصل، ميلان كونديرا، فيتساءل في كتابه “البطء” عن سبب اختفاء متعة البطء، مجيباً أن السبب هو “أن السرعة هي شكل النشوة التي أهدتها الثورة التكنولوجية إلى الإنسان”. هناك “رابطٌ سرّي ما بين البطء والذاكرة، السرعة والنسيان (…) عصرنا مهووس برغبة النسيان. وتحقيقاً لتلك الرغبة، يسلّم ذاته لشيطان السرعة. إنه يحثّ الخطى، لأنه يريد إفهامنا أنه بات يتمنى ألا نتذكّره، أنه قد تعب من ذاته، قرف من ذاته، وأنه يريد إطفاء شعلة الذاكرة المرتجفة”.

ألا يقول لنا ذلك كله عدم الاكتفاء، الطمع، الحسد، بعضاً من كراهية الآخر وكراهية الذات، والكثير الكثير من التعاسة والشقاء. لكأنما تلحّ على البشرية، اليوم، ضرورةُ التمهّل قليلاً، أخذ مسافةٍ ما، والتفكّر طويلاً، وقد صار الانحياز إلى البطء واجباً أخلاقياً، وربما أيضاً سياسياً.
____
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *