كيف تنجو الصحافة من نهاية العصر الجليدي؟


*أحمد الفخراني


هل تمكن إدارة صحيفة الكترونية بعقل ورقي، انه عقل يرجع إلى العصر الجليدي للصحافة، هل يمكن المزج بين العصر الجليدي والعصر الورقي، إلا أن التجارب الجديدة مقيدة بقوانين تطارد حتى كتّاب التدوينات الصغيرة، بعض الصفحات الالكترونية انجح من الصحف، الأمر الذي يستوجب وجود مناصب تهتم بالغايات الاستراتيجية للصحافة.
ما الجديد الذي يمكن قوله في أزمة الصحافة في الوطن العربي؟ لا بد أن تكرار الصراخ صار مملا: العالم تغير والمهنة في العالم أمام تحديات كبرى أبسطها إيجاد «بيزنيس موديل» يغطي تكلفة الصحافة الإلكترونية بعد أن قامت قيامة الصحف الورقية ذات ليلة وقضي الأمر. هذا سؤال الساعة في مصر في كل المجالات لماذا القادرون على صناعة التغيير في السجن أو قيد المطاردة والتهميش ومن فاتهم فهم الزمن يشرعون القوانين ويصدرون الصحف.
في مجال الصحافة بالوطن العربي، رغم إدراك المفارقة: لازال الأمر بعيدا، فنحن لم ننجح حتى في إنجاز تلك النقلة الحاسمة بين النوعين واستيعاب أن الأدوات تغيرت والوسائط تغيرت ومزاج القراء تغير والوصول إليهم صار أصعب. وأن فن «الصنايعية» القدامى في إيجاد «خلطة» لجريدة واسعة الانتشار «انتهى». تكرار هذا القول صار تقليديا. الثورة الحقيقية هي الفعل. العقبة الحقيقية هي العجز عن نزع العقول الورقية واستبدالها بعقول أكثر قدرة على الانفتاح والتجريب والمغامرة. «العقول الورقية» ما زالت تدير الصحافة وتدير أزمة الصحافة، رغم أنها سبب الأزمة. لا أحد يطالبها بالتنحي، بل بالتفتح وقراءة الجديد في الصحافة كتلامذة لا أساتذة والاستعانة بجيل أصغر سنا، ما زال يتعثر في قلة الخبرة لكنه سيحققها عما قريب.

المفارقة الواضحة أن حتى إنشاء موقع إلكتروني بعقلية «ورقية» لم يعد صالحا، حتى على المعايير التي تبدو شكلية، كشكل المحتوى وفقا لكل وسيط، أسئلة حول كيف أبقي القارئ أطول مدة ممكنة لتصفح موقعي، كيف ينتقل من رابط إلى رابط بدلا من أن يكون الرابط الأكثر جذبا للقراء هو عينه الرابط الطارد لأني لا أشجعه على الانتقال لرابط غيره. كيف يختلف النشر على الموقع عن النشر على وسائط أخرى. وأشياء أخرى لا مجال لذكرها.

قوانين مقيِّدة
الخبر السعيد أن جوهر الصحافة كخدمة لمستهلك لم ولن يتغير: جمع المعلومات وبيعها، وترتيبها في محتوى مفيد، قابل للاستخدام وذي صلة بما يهم المستخدم ورسالة الصحيفة أو الموقع المعلنة أو المضمرة. كما أنها لم تناقض أسمى غايات الصحافة: الكشف عن الحقيقة. لكن في زمن متسارع، مغاير، إيقاعه فاصل بين عصرين كالفاصل بين العصر الجليدي وما تلاه، صارت المهنة أبعد من اخترالها في تعريف من أربع كلمات. المنافسة الحقيقية في العالم على جذب الانتباه أثناء الكشف عن الحقيقة جنبا إلى جنب مع ازدياد المساحات المطلوبة في صحافة الترفيه والصحافة الثقافية والأفكار المتخصصة وأخرى قد تكون شديدة الطرافة أو الجدة تعمل على التفصيل لا الإجمال، وقد تكون أنجح من المواقع الإخبارية الشاملة وأكثر قدرة على استخدام أدوات تكنولوجيا المعلومات في صناعة المحتوى. الجوهر لن يتغير أبدا: جد ما يفيد الناس، ما يهم الناس، اكشف لهم الحقيقة. ولا تغفل عن امتاعهم ستصبح على الطريق. الاختلاف الحقيقي في الوسيلة.

في الوطن العربي كل شيء مؤجل ومقيد. تصدر قوانين لتكبيل التجارب الجديدة كقانون الإعلام الموحد وقانون الجريمة الإلكترونية الذي يطارد حتى كاتبي التدوينات القصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، من أصدروا القانون في الأساس أصدروه على مقاس صحافة التسعينات من الألفية الماضية، انتصار أشبه بالهزيمة نتيجة لفعل الزمن.
التجارب الجديدة متعثرة أساسا – بلا تعميم – بسبب ضعف الإمكانيات أحيانا وغياب الخبرة والإستراتيجية، أو نجاحها المؤقت والمحاط بشكوك الإغلاق نتيجة استغلالها للميزة التنافسية الغائبة عن الصحف الكبيرة: الحرية والكشف عن الحقيقة. وهو ما لن تتحمله السلطات في مصر أو الوطن العربي طويلا وفقا لدلالات الواقع الحالي، لكنها تخطو خطوات واسعة نحو الفهم، فتحررها من رأس المال وسطوة الكليكات قد يكون عائقا لكنه يسمح أيضا بالفهم عبر التجريب.

تجارب الشبان
بعض الصفحات وقنوات اليوتيوب التي يديرها شباب صغير السن بلا منصات إلكترونية وبلا هياكل تحريرية معقدة قد تكون أنجح في الوصول إلى الجمهور، أنجح حتى من تجارب الإعلام المستقل، ويمتد نجاحهم في مجالات متعددة من السياسة إلى صحافة الخدمات إلى الصحافة العلمية وصحافة الترفيه. لهذا دلالة، فإذا أرادت الصحافة العربية التطور فعليها بلا شك أن تلجأ للاعتماد بشكل كبير على شباب صغير السن، لم يلوث عقله بزمن العصر الجليدي، وأن يتم تدريبه من أهل الخبرة الصحفية على قواعد المهنة التي لم ولن تتغير، وإشراكه في وضع خطط وإستراتيجيات الوصول إلى الجمهور للوسائط المتعددة واستخدامها. تبادل خبرات العصرين: الجليدي والرقمي، قد يكون حلا عقلانيا. يتطلب كثيرا من التفهم من الطرفين، والقدرة على التخلي عن صفات النزق والغرور ومصادرة المستقبل والاستهانة بالخبرات التي يحملها كل طرف. العاملون بالصحافة من سن الخامسة والثلاثين على أقل تقدير إلى ما فوق، عليهم التحلي بالتواضع وإعادة التدريب على فهم طبيعة الوصول للجمهور عبر كل وسيط وقواعد اللعبة الجديدة.

القارئ العربي أسرع في التعامل مع التغيير، فاستهلاك الأخبار عبر التطبيقات، استهلاك الصورة أكثر من النص، بات أمرا واضحا. يبدو الأمر كضجيج بلا طحن، في ظل هذا الركام الهائل من النشر دون أن يتوقف الناشر ليسأل نفسه: من أخاطب؟ وكيف أفعل؟ ومتى أفعل؟

في ظني ما زال هناك فريضة غائبة، تتمثل في استحداث مناصب جديدة تعمل مع أو تحت إشراف رؤساء التحرير من بينها المخطط الإستراتيجي للمحتوى ومسوقي المحتوى. المخطط الإستراتيجي للمحتوى ومسوقي المحتوى يختلف دورهم عن رئيس التحرير، فمهامهم شاملة وليست يومية، وهم مسؤولون عن وضع أهداف الموقع، وتصميمه عبر كل وسيط، تحديد الجمهور المستهدف وكيفية الوصول إلى كل شريحة، ووضع خطط لجعل المحتوى أكثر جاذبية، وغيرها من الأدوار الإستراتيجية التي لا يتسع المجال هنا لذكرها. الصحافة العربية في حاجة إلى المغامرة والابتكار كي تنجو.
______
*السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *