*هاشم صالح
* الغرب مصاب بـ «برود عاطفي» والعرب بـ «انسداد تاريخي» * لا شفاء للعالم إلا بتجاوز «البارادايم» المصرفي اللاإنساني * العنف والحروب الأهلية تنفيس عن الانسداد التاريخي المتفاقم عربياً * ثورة الضمير البشري بإمكانها إنقاذنا وهي آتية لا ريب فيها —— نحن العرب قصتنا مفروغ منها.
نحن نمثل «الرجل المريض» للعالم حاليا تماما كالسلطنة العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر.
.
نحن مرضى بأصوليتنا التكفيرية، بغلوّنا في الدين، بانقساماتنا المذهبية والطائفية التي تكاد تدمرنا تدميرا.
لم يعد أحد يثق بأحد، الكل خائف من الكل.
التعايش جحيم أو نار.
انظروا سوريا أو لبنان أو العراق الخ.
.
كأننا في أوروبا ابان محاكم التفتيش والحروب المذهبية الكاثوليكية– البروتستانتية قبل أربعمائة عام! التاريخ يعود إلى الوراء ولا يتقدم الى الأمام.
—– نحن مرضى بعدم القدرة على إيجاد صيغة ناجحة للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة.
الحلقة المفقودة، الحلقة المفرغة الضائعة، لا أحد يعرف كيف يجدها.
الجميع يبحث عنها، الجميع يزعم أنه وجدها.
ولكن هيهات! انظروا مشاريع نقد التراث، وتجديد التراث، الخ.
.
والآن ماذا عن الغرب والحضارة الغربية؟ هل حقا لا تشكو من أي شيء؟ أم أنها هي مريضة أيضا؟ في حياتي كلها ما كنت أعتقد أني سأكتب عن خلل الحضارة الغربية أو مرضها.
كنت أجد فيها مرفأ وعلاجا ومهربا من الشرق المحترق.
وإليها التجأت.
ولهذا السبب لم أعد منذ أربعين عاما تقريبا بعد أن هاجرت وارتحلت.
ما كنت أتخيل أن حضارة جبروتية بهذا الحجم يمكن أن تكون مريضة أو منخورة من الداخل.
صحيح أن مرضها ليس من النوع القاتل كمرضنا نحن ولكنه خطير أيضا ويتطلب تشخيصا وعلاجا.
من بين «الأطباء» الذين تصدوا لذلك مؤخرا المفكر الفرنسي اللامع فريدريك لونوار، أستاذ الفلسفة وعلم الاجتماع في الجامعات الباريسية.
ولكنه ليس الوحيد.
ومعلوم أن المفكرين الحقيقيين هم «أطباء حضارات» كما يقول نيتشه.
إنهم هم المسؤولون عن تشخيص مرض الأمة وإيجاد العلاج.
وكلما كان المفكر كبيرا كان تشخيصه دقيقا وناجعا.
ومعلوم أن التشخيص الناجح هو نصف الطريق إلى العلاج، بل إن التشخيص الخاطئ قد يقتل المريض بدلا من أن يشفيه.
ما ينقصنا في العالم العربي هم المشخصون الكبار لأمراضنا.
ما ينقصنا هم المثقفون أو الفلاسفة الكبار الذين يعرفون كيف يحفرون على أسّ الخلل وجذوره العميقة.
باختصار شديد ينقصنا حفر أركيولوجي في الأعماق.
أسباب والآن نطرح السؤال: أين عثر فريدريك لونوار على أصل الخلل في الحضارة الغربية؟ سوف تستغربون ذلك.
لم يجده في أصولية دينية متعصبة لأن الغرب تجاوز ذلك منذ زمن بعيد.
بعد عصر التنوير والقرن التاسع عشر والمعارك الكبرى مع الرجعية البابوية الكاثوليكية انتهت مشكلة الأصولية المسيحية في الغرب، ولكن ظهرت على أنقاضها أصولية جديدة! أكاد أقول بأنها أصولية اباحية لادينية.
وهذا يعني أننا لم نتخلص من أصولية الا لكي نقع في أحضان أصولية أخرى، ولكن الأمور ليست بهذه البساطة.
لقد حصل تقدم في أوروبا.
وأنا لا أنكر حصول التقدم في التاريخ وإلا لألقيت سلاحي منذ زمن طويل واستقلت من العالم.
لنحاول تشخيص المرض بدقة أكثر.
هذه الأصولية الجديدة التي لا تقل جبروتا عن السابقة إن لم تزد تتلخص بكلمتين أو بضع كلمات: هيمنة المنطق الميكانيكي التاجر على العالم.
وأقصد بالدرجة الأولى هيمنته على الغرب والعقلية الغربية.
لا عواطف ولا من يحزنون.
لا شفقة ولا رحمة.
حسابات باردة فقط.
وهكذا اختزلت الحياة والعلاقات إلى مجرد آليات ميكانية، وتفاعلات فيزيولوجية.
هذه هي العقلية الجديدة التي ابتلي بها الغرب وابتلينا بها نحن أيضا بسببه، لأن الغرب يسيطر على العالم.
هذا المنطق الميكانيكي التاجر الذي لا هم له إلا الربح والمنافسة المسعورة على الأسواق والصفقات هو سبب اختلال العالم والبيئة والطبيعة والعلاقات الانسانية والمجتمعات البشرية كلها.
هذا الجشع الوحشي للربح وربح الربح هو سبب اختلال المناخ، حيث لم يعد الصيف صيفا ولا الشتاء شتاء، وحيث ارتفعت درجة الحرارة بشكل مخيف وغير طبيعي.
.
عِلَل الغرب هل ستصبح الحياة مستحيلة على وجه كوكبنا الأرضي عما قريب؟ وإلى أين سنهاجر؟ هل سيعم التلوث الكون؟ وهل ستنفد المصادر الطبيعية غير المتجددة من على وجه الأرض؟ هناك اختلال كوني الآن، السماء أيضا مختلة وليس فقط الأرض.
والمسؤول الأول عنه هو أسياد العالم الجدد: أي الإمبرياليات والشركات المتعددة الجنسيات.
فالإنسان تحول إلى سلعة تباع وتشترى بالفلوس، وكذلك الأرض التي يسكن عليها.
وعندما يتحول الإنسان إلى سلعة، عندما تصبح العواطف والمشاعر الإنسانية مدعاة للتهكم والسخرية أو دليلا على التخلف في نظر «الحضاريين»، فهذا يعني أنه على الدنيا السلام.
عندما تعم المجاعات دول الجنوب ويعيش أكثر من مليار شخص على أقل من دولارين في اليوم فلا معنى لأن يتبجح الغرب بحضارته أو بحقوق إنسانه التي تحولت أيضا الى أداة سياسية للضغط والابتزاز! هنا تكمن علة الغرب أو أحد جوانبها، لأن المرض أعمق من ذلك وأكثر تشعبا.
.
يتساءل حكماء الغرب: هل الإنسان حيوان اقتصادي فقط أم أنه إنسان أيضا من لحم ودم وعواطف جياشة؟ ما معنى إنسان بارد مفرغ من كل العواطف الإنسانية ولا يهمه إلا زيادة أرباحه أضعافا مضاعفة؟ قل لي كم هو حسابك في البنك أقل لك من أنت وأي قيمة تساوي.
نقطة على السطر.
أما مشاعرك، أحاسيسك، شهامتك، فلا تساوي فلسا واحدا.
كل هذا عفى عليه الزمن.
نعم العالم مريض أيها السادة.
وما الأزمة المصرفية الارهابية التي حصلت عام 2008 إلا أكبر دليل على هذا المرض العضال الذي أصاب الغرب الرأسمالي الشره واللاأخلاقي إن لم نقل اللاإنساني.
لكن هذه الأزمة المفاجئة ليست الا عرضا سطحيا على مرض الغرب الأعمق والأشمل.
وهذا المرض له اسم واحد: «انعدام الضمير الأخلاقي للغرب» أو بالأحرى لقادته المتغطرسين الذين يتحكمون بمصير العالم من خلال الشركات المتعددة الجنسيات أو العابرة للقارات.
هذه الأزمة العامة تشمل مختلف مناحي الحياة المعاصرة.
وهي مرتبطة بزعزعة أنماط الحياة كلها.
وهذه الزعزعة لا تقل خطورة وأهمية عن تلك التي حصلت قبل اثني عشر ألف عام عندما انتقلت البشرية من العصر الباليوتي إلى العصر النيوليتي.
(انظر الثورة النيوليتية).
وهذا أكبر دليل على خطورة ما يحصل الآن.
ثورة لا بد منها نحن أيضا نعيش طفرة نوعية في تاريخ البشرية.
ولا أتحدث هنا فقط عن ثورة المعلوماتية التي ألغت الزمن والمسافات وإنما عن ثورة أخرى لا تقل أهمية.
انها ثورة عارمة في طريق الحصول الآن: إنها ثورة الضمير البشري.
فإذا لم يستيقظ هذا الضمير بعد أن أصبحنا على حافة الهاوية فسوف نهلك جميعا.
صحيح أن هذه الثورة الضميرية أو الأخلاقية لا تخص حتى الآن إلا أقلية قليلة من العباقرة والفلاسفة والقادة الكبار.
صحيح أن الإشارات التي تومض بها لا تزال ضعيفة، واهية، لا تكاد ترى تقريبا بالعين المجردة.
ولكن بما أنها مفعمة بقوة الحب والحياة، أي أعظم قوتين تحركان الكون وتخلعان عليه المعنى، فلا شيء يمكن أن يوقفها.
إنها آتية لا ريب فيها.
وهي التي ستنقذنا.
ولكن المشكلة هي أن الزمن أصبح محسوبا علينا.
فالقوى الشريرة تهددنا والخطر محدق من كل الجهات.
أقصد بذلك أن القوى الأنانية المتغطرسة اللامسؤولة تمارس عملها التخريبي للمجتمعات البشرية.
إنها لا تزال تواصل عملها التدميري للنظام البيئوي للكون.
ولا أحد يعرف متى سنصل الى نقطة اللاعودة.
وبالتالي فالالحاح مستعجل يا اخوان.
أقصد الحاح العمل من أجل انقاذ كوكبنا الأرضي قبل فوات الأوان!.
هذا ما يقوله لنا حكماء الغرب من أمثال فريدريك لونوار أو جان كلود غيبو أو ادغار موران، الخ.
.
انهم يقولون لنا ما معناه: لا شفاء للعالم من أمراضه الحالية إلا بتجاوز «البارادايم» المصرفي اللاانساني الذي حول العالم كله الى تجارة أو سلعة.
والبارادايم يعني النموذج المعرفي الأعلى الذي يهيمن على البشرية في لحظة ما أو عصر ما.
وما ان ينزاح حتى يحل محله بارادايم آخر، وهكذا دواليك.
هذا لا يعني أننا لسنا بحاجة الى مصارف وبنوك ورأسمالية! فهي التي شكلت الحضارة الحديثة بديناميكيتها وطاقتها الابداعية.
ولكن الشيء اذا زاد عن حده انقلب الى ضده وفرغ من كل نزعة إنسانية.
هنا تكمن مشكلة الغرب.
هذا لا يعني أن الماديات ليست ضرورية وكذلك الحياة الاستهلاكية الرغيدة.
كلنا يحبها.
ولكنه يعني أن هناك ما هو أعلى وأغلى من كل ذلك: الانسان نفسه! ثم القيم اللامادية المتمثلة بالتعاطف والتضامن وحس الشفقة والرحمة التي لا معنى لأي مجتمع ولا لأي حضارة بدونها.
وهذا ما نسيه الغرب فأصبح صقيعيا باردا من حيث العلاقات.
فالمنطق التاجر يسود الغرب وعلاقاته مع الآخرين.
من هنا ضرورة العودة الى الأخلاق والقيم العليا اللامادية والتي هي أغلى من الذهب.
ينبغي أن ننتقل من المنطق الكمي الميكانيكي الى المنطق النوعي الحيوي النابض بالحياة والمحبة.
ثم يقولون لنا بأن أزمة الغرب عامة شاملة وبالتالي فالحل ينبغي أن يكون عاما شاملا.
انها أزمة اقتصادية مصرفية أولا، ثم أزمة مناخية بيئوية ثانيا، ثم أزمة زراعية ثالثا، ثم أزمة صحية طبية رابعا، ثم أزمة هوية نفسانية خامسا، ثم أزمة سياسية بالمعنى العميق للكلمة سادساً أي تخص كيفية العيش والتعايش معا بين مختلف الأقوام والطوائف، ثم أزمة معنى وقيم سابعا وأخيرا.
وربما كانت هي الأهم.
فما معنى مجتمع بدون قيم عليا تتجاوز الماديات سواء أكانت هذه القيم دينية أم فلسفية؟
علل العرب أعود في نهاية المطاف إلى مرضنا نحن وأقول ما يلي: على مدار التاريخ الحديث كان الغرب يجد حلا لانسداداته الحضارية في كل مرة.
فديناميكيته أو عبقرية نوابغه كانت دائما قادرة على فتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود.
في كل مرحلة انسدادية هائلة من تاريخ الغرب كان يظهر مفكر كبير لكي يحل المشكلة والداء العضال.
في القرن السادس عشر ظهر لوثر وايراسم.
فكان الاصلاح الديني والنزعة الإنسانية النهضوية.
وفي القرن السابع عشر ظهر ديكارت ولايبنتز ومالبرانش وسبينوزا.
فكانت الفلسفة العقلانية ومصالحة الدين مع العقل.
وفي القرن الثامن عشر ظهر جان جاك روسو وكانط.
وفي القرن التاسع عشر ظهر نيتشه وكيركيغارد، وفي القرن العشرين ظهر هايدغر.
وفي وقتنا الحالي ظهر هابرماس، الخ.
.
هناك آخرون كثيرون بالطبع ولا يقلون أهمية.
فحظ الغرب أنه لم يخلُ أبدا من العبقريات الفكرية كلما دعت الحاجة الى ذلك أو ادلهمت الخطوب وانسدت الآفاق.
أما مشكلتنا نحن فهي أشد وأدهى.
إنها تبدو وكأنها مسدودة لا حل له ولا منفذ.
الانسداد التاريخي العربي الإسلامي تفاقم وتفاقم إلى درجة أنه لن ينفك الا بالانفجارات المروعة والمجازر الدموية والحروب الأهلية.
وهذا ما هو حاصل الآن.
أما هم فقد عقلوا وأصبحوا قادرين على حل أزماتهم بشكل سلمي عن طريق «الحوار العقلاني الديمقراطي التواصلي» كما يقول هابرماس.
الفتنة الكبرى مثلا بين المذاهب الاسلامية عمرها ألف وأربعمائة سنة.
وحتى الآن لا تزال تشكل أكبر عقبة كأداء وأطول انسداد تاريخي في تاريخنا.
ولا أرى مفكرا عربيا واحدا قادرا على تشخيصها، ناهيك عن حلها! هنا يكمن الفرق الأساسي بين أزمات الغرب وأزمات العالم العربي.
تنقصنا عبقريات فكرية تكون قادرة على الارتفاع الى مستوى التحدي.
لماذا لا نقول ذلك؟ لماذا لا نتجرأ على الاعتراف بذلك؟ كم أتحسر لأن أركون لم يعش فترة أطول لكي يشخص لنا أبعاد الانقسامات المذهبية وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ! وقد كان على وشك القيام بذلك وايجاد الحل والعلاج ولكن يد القدر لم تمهله.
_______
*الاتحاد