كيف تكتب نهاية سعيدة معقولة؟


*جو فاسلر – ترجمة: ميادة خليل

كاتب مثل تيد ثومبسون تعلم من جون شيفر أن حل النهاية السعيدة لا يمحو الظلام من القصة, لكن بدلاً عن ذلك يوجد ضوء داخلها.

النهايات السعيدة معروفة بندرتها في الأدب. نقرأ الكتب العظيمة لتعقيدها العاطفي والأخلاقي, والحل على نطاق واسع يغش إحساسنا عن ما تبدو عليه الحياة الواقعية، لأن المشاكل المعقدة نادراً ما تُحل بشكل كامل, أفضل الكتب تميل الى مطاردة وإثارة أعصاب القرّاء حتى لو هم مثقفون ومرفهون.
هذا يصح بشكل خاص في الكتابة عن ضواحي المدينة, ربما لأن هذه البيئة قُدمت على أنها نهاية سعادة رمزية للسرد الثقافي الأمريكي المتحرر. ليس من قبيل الصدفة أن أفضل القصص المعروفة عن الطبقة المتوسطة الأعلى ــ مثل كتب جون أبدايك “رحلة رابت”, ريتشارد ياتس “الطريق الثوري”, ريك مودي “العاصفة الثلجية”, على سبيل المثال لا الحصر, ومن الأفلام “الجمال الأمريكي” ــ تميل الى نهايات وحشية للغاية. هذه الأعمال, في لحظاتها الأخيرة, دمرت وأضعفت شخصياتها ــ ومعهم فكرة أن الحياة في الضواحي هي نهاية سعيدة مناسبة للحياة الأمريكية.
عندما تحدثت مع تيد ثومبسون مؤلف كتاب “The Land of Steady Habits”, ناقشنا كيف أن عاطفة جون شيفر ورؤيته الجوهرية في الخلاص جعلته شاعراً فريداً من بين شعراء الضواحي التعساء, شيفر كاتب فريد مقارنة بكتّاب آخرين بسبب قدرته باستمرار على كتابة نهاية سعيدة قابلة للتصديق. ثومبسون فكك قصة شيفر المفضلة لديه, جوهرة مهملة اسمها “لص شادي هيل”. وبيّن كيف صنع الأستاذ لحظة فكاهية, معقدة, واضحة وحقيقية. ذهب الى شرح كيف استفزه شيفر ليكتب عن الناس ــ والمناطق التي يعرفها جيداً ــ بكرم اكبر, وتوازن دائم بين الضوء والظلام. 
“The Land of Steady Habits” (بلاد العادات الثابتة) هو كتاب ثومبسون الأول, أخذ اسمه من الاسم العامي لولاية كونيتيكت (الكاتب نشأ في ويستبورت) أندرس هيل, خبير مالي معروف في وول ستريت طبيعته مضطربة بين التكاليف البشرية والبيئية لتحقيق الربح, قرر قطع نفسه عن خاصيتين رئيسيتين في حياته: وظيفته وزوجته. بدأ يشك في أن مسؤولياته السابقة فعلت أكثر من تعثره فيها ــ وأعطى هذه المسؤوليات أيضاً شكل مصيري.
ثومبسون خريج ورشة الكتّاب في آيوا ظهرت كتاباته في مجلة “تين هاوس” الأدبية و”أفضل الأصوات الأمريكية الجديدة”. تحدث لي عبر الهاتف من منزله في بروكلاين. 
تيد ثومبسون: 
صادفت قصة “لص شادي هيل” عندما كنت لازلت أعيش في آيوا, سنة بعد تخرجي من ورشة عمل الكتّاب (Writers’ Workshop). في تلك الأيام كان لدي كتابان أو ثلاثة على مكتبي, ليس لقراءتها بجدية، ولكن من أجل فتحها والغرق فيها أثناء عملي ــ فقط لكي أستمع الى إيقاع جمل ناس معينة وأسمح لهذه الموسيقى بتوجيهي. في تلك الفترة, جمل شيفر على وجه الخصوص تسحرني. أستخدمها لالتقاط تلك المجموعات القصصية الحمراء – البرتقالية السميكة وتصفحها عندما أتورط. في يوم ما, في منتصف مسودة قصة قصيرة محكوم عليها بالفشل كنت أكتبها, فتحت عشوائياً قصة “لص شادي هيل”، وبدأت قراءتها لأول مرة. كان ذلك في الصباح الباكر, المكان هادئ جداً وساكن, وأتذكر أني انجذبت الى اللهجة, وهذا النوع من إتقان إرسال تلك الجمل الأولى: 
“اسمي جوني هيك. عمري ست وثلاثون عاماً, يقف في جواربي خمسة أقدام وأحد عشر إنجا (160 سم). أزن 142 باوند (64 كغم) عارية, وأنا, إذا جاز التعبير, عريان في هذه اللحظة وأتحدث في الظلام”. 
كنت أظن أني سأقرأ مقطعا أو اثنين, مجرد الأسلوب, لأرى كيف أنزلق الى القصة, لكن الشيء التالي الذي عرفته هو أني كنت في منتصف القصة, الى أبعد ما كنت قد سمحت لنفسي, وقرأتها بصوت عال الى شاشة كمبيوتري. 
أندهش دائماً من أن هذه القصة ليست واحدة من قصصه الطوباوية, بالرغم من أن “السبّاح” و”وداعاً, أخي” أول ما يفكر به الناس عندما يسمعون اسمه. تمتلك القصة كل الأشياء التي أحبها في شيفر: روح دعابة افتراضية, شخصية على حافة الانهيار العاطفي, عالم قاس ظاهرياً لكنه دائماً ما يقوض من قبل نوع من الوحشية. وأكثر ما يلفت النظر, نثره الذي يحلق خلال القصة بأكملها (من هنا جاء الدافع في قراءة القصة بصوت عال, وهذا ما أفعله تقريباً في كل مرة أقرأها). حتى عندما ذكرت القصة للآخرين, كانوا بالكاد يعرفونها. وإذا عرفوها, لم يتأثروا بها. وهي ليست واحدة من القصص التي غالباً ما تُقرأ عند الاحتفاء بـشيفر, مثلما حدث في مرة منذ بضع سنوات عند nd Street Y92*. كنت أتساءل حينها باستمرار: لماذا؟
قصة بسيطة وجميلة عن المظهر الخارجي. رجل يعيش مع عائلته في الضواحي, يفقد وظيفته في شركة تقوم بتصنيع الـباربلينديوم, الذي يبدو أنه نوع من أغطية سران الملونة (أنا متأكد من اختراع شيفر لتلك الكلمة لأن لا غوغل ولا أنا سمعنا بهذه الكلمة). طُرد من وظيفته وقرر العمل لحسابه يقوم بعمل مثير للشفقة. بسرعة, الأشياء تأخذ منحى كئيبا. نفذت أمواله ولا يستطيع أن يُخبر زوجته بذلك. وبمجرد أن تبدأ التمثيلية, يشعر أن أمله الوحيد هو في اقتحام منازل جيرانه وسرقة أموالهم في منتصف الليل. 
البطل يعيش في حي خيالي يُدعى “شادي هيل”, ضاحية صغيرة غنية لا تختلف عن ضاحية من ضواحي أوسينينغ, نيويورك, حيث عاش شيفر حياته بالفعل. في إحدى الليالي بعد حفلة عشاء متأخرة, عاد الى بيت مضيفيه واقتحمه. مشى على أطراف أصابعه الى غرفة نومهم حيث كانوا نائمين. رأى زوجا من السراويل معلقا على الكرسي, والتقط محفظة صديقه. كان في المحفظة 900 دولار. وهرب بكل هذا في الليل. هذا الحادث يطارد الراوي لبقية القصة, وكاد أن يحطمه تماماً. أصبح مقتنعاً جداً بجريمته. يرى السرقة والخطيئة أينما ذهب. بدأ يشعر كما لو أن الجميع يعلم بأنه أرتكب خطيئة ما. بدأ يتصرف مثل شخص يؤكله الذنب حياً. 
ومع ذلك, دفعه يأسه لاقتحام منزل جار آخر عندما احتاج الى نقود أكثر.هو يعلم بأنه لن يتم القبض عليه. هؤلاء الأصدقاء السكارى, “المقاتلين المخمورين” كما أطلق عليهم, لا أمل في استيقاظهم. عندما يذهب الى منازلهم ــ وهنا يصبح وصف شيفر صعباً ــ خجل الراوي وشعوره بالذنب تزداد حدته الى الحد الذي يصبح على وشك الأنهيار العصبي. لكن بدلاً من أن يصبح جزءا من الجُرح, تتدخل الطبيعة. السماء تُفتح وتُمطر. 
الآن, هذه منطقة خطرة للكاتب. السرعة تُغري الكتّاب الشباب باعتبارها ذروة دراماتيكية لفترة طويلة: أكتب نفسك في مأزق ودائماً ما يكون لديك الطقس. بالنسبة لي المدد الغيبي لأزمات الروح اليومية ــ الذنب والخطيئة يطهرهما المطر ــ قد يكون مجرد حل عملي متاح. (عندما فعل بي المطر ما فعل, لم أكن قد وجدت الله بعد, شعرت بالبرد والرطوبة والسُكر)، لكن على أي حال, في الطريقة التي يعمل فيها النثر, شيفر, الملعون, يوقف عملها. رغم كل مقاومتي, أعتقد أن البطل كان مرتاحاً من ذنبه. هذا جميل, مقطع تعويضي, واحدة من المقاطع التي قرأتها بصوت عال ربما لمائة مرة:
“كنت أفكر بحزن بداياتي, كيف خُلقت من زوج شهواني منحل في فندق وسط المدينة بعد ستة أشواط عشاء مع نبيذ, وأمي أخبرتني عدة مرات أنها لو لم تشرب الكثير من كوكتيل Old-Fashioneds قبل ذلك العشاء الشهير فانه لم أكن لأولد على نجمة. وفكرت بالرجل الكبير وتلك الليلة في بلازا والكدمات على أفخاذ نساء قرويات من بيكاردي وكل تلك الملائكة البنية المذهبة التي عقدت المسرح معاً ومصيري الرهيب. وبينما أنا أمشي باتجاه بيوتر, كانت هناك إثارة قاسية, وجميع الأشجار والحدائق, مثل مسودة على فراش من نار, وكنت أتساءل ماذا كان هذا حتى شعرت بالمطر على رأسي ووجهي, وبدأت بالضحك.
أتمنى لو يمكنني القول بأن ذلك الأسد الحنون جعلني صالحاً, أو طفلا بريئا أو نبرة موسيقى بعيدة عن بعض الكنائس, لكن لم يكن سوى المطر على رأسي ــ رائحته تحلق فوق أنفي ــ أظهر لي هذا مدى حريتي من جسدي في فونتينبلو وعمل اللص. هناك طريق للخروج من ورطتي. إذا كنت مهتماً لاستخدامها. لم أكن محاصرا. أنا هنا على الأرض لأني اخترت ذلك. لم أتأثر بالعطايا التي منحتها لي الحياة طالما أنا امتلكها, وأنا أمتلكها إذن ــ العلاقة بين جذور العشب الرطب والشعر الذي نما من جسدي, رعشة موتي التي أعرفها في ليالي الصيف, حب الأطفال, والنظر الى ثوب كريستينا”. 
لا أعرف تماماً كيف رفعنا شيفر هنا من الصفحة الى السماء. تفحصت فيها وحاولت التقاط المعنى. كلما تمعنت أكثر, ظهر عجزي في إيجاد معنى لها. كل ما يمكنني قوله هو إن في موسيقى تلك اللغة, وربما في تكرار بعض الصور من بداية القصة, كان شيفر قادراً على استحضار تجربة مقنعة في داخلي عن شيء مجرد بقدر ما هو غامض: وجود رجل تخلى عن ضميره. 
لا أستطيع تخيل أي شخص آخر يمكنه كتابة “كدمات أفخاذ نساء قرويات من بيكاردي” أو “الملائكة البنية المذهبة التي عقدت المسرح معاً”. كم هي غريبة تلك الصور! حتى الآن هناك شيء ما حول فجائيتها يجعلني أضعف أمامها, وتكشف لي شيئا آخر تريد أن تقوله القصة. 
وما هو هذا الشيء, أعتقد أن الجواب في السطر التالي “العلاقة بين جذور العشب الرطب والشعر الذي نبت من جسدي”، يا ألهي, هذا يحطمني تماماً. يأتي من العدم ــ الراوي تدب فيه الحياة في جمال تلك اللحظة, تتيح له, أو لا تتيح له, اختيارا متزنا عن كيفية عيش هذه الحياة. يمكنه أن يقرر أي نوع من الرجال يريد أن يكون. ولهذا استدار وعاد الى المنزل, يُصفّر في الظلام.
بعد هذا, عادت حياته الى طبيعتها ــ استعاد وظيفته وأعاد المال الذي سرقه. أخيراً, القصة تمتلك بنية كوميدية: العالم فيه الكثير والكثير من المختلين, لكن في النهاية, يعود مرة أخرى من جديد: هذه واحدة من الأشياء الواضحة جداً عندما تقرأ لـ(شيفر): انفتاحه على جمال النهاية السعيدة. ضواحيه ليست أماكن فاسدة وفظيعة. ليست أماكن مظلمة, جذور قبيحة يحاول كشفها ــ وهو غالباً ما يكون التصور الأساسي في فرع من أدب الخيال الأمريكي عن الضواحي (والسينما والتلفزيون). عالم شيفر بالرغم من أنه عالم يتمزق بشكل مستمر عن طريق جمال الغير متوقع, بغض النظر عن كيفية حدوث ذلك, بالنسبة لي إيجاد هذا على الصفحة كان مثل وحياً ما. لن تفترض الكتابة عن ضاحية بمثل هذه الطريقة ــ لمعرفة جمالها, ووضع معنى عميقا في داخلها. من الواضح تماماً لماذا ينفق كاتب مثل جيم هاريسون الكثير من الوقت في وصف الطبيعة, لكننا أصبحنا نصدق بشكل مشروط تقريباً أن تشذيب جماليات الضواحي هو مجرد وهم لإخفاء بعض الفساد الرئيسي. 
مع شيفر, ليست هذه هي الحالة الحقيقية بغض النظر عن قسوة شخصياته, عن خيبة أمل شخصياته بعضها ببعض, بغض النظر عن حجم الخطايا التي يرتكبونها أحدهم مع الآخر, يبقى الإحساس بأن هناك ضوءا في عالمه. يأتي من خلال طريقة وصفه للأشجار, الروائح والنسائم والمحيط بشكل جميل. الطبيعة تخلق توازنا لعذاب تعذيب الشخصيات في داخلها ــ وأحياناً, حتى الجمال كفيل بإنقاذهم. 
من المحتمل أن تكون كتابة نهاية سعيدة ذات مغزى واحدة من الحيل الصعبة في الأدب. هناك الكثير من الكوميديا في ذلك (لا سيما في السينما والتلفزيون) الذي يتبع نظام قديم لعالم تهاوى الى أجزاء وبعدها يتم وضعها معاً مرة أخرى, لكن الكثير منها يبدو, حسناً, كما لو أن تلك المشاكل قد حُلت والآن لا يمكنني نسيانها. أنت لا تريد قصة أدبية تمتلك هذا التأثير ــ أنت تريد قصة تحظى بصدى لدى القارئ خلف هذه الصفحات, وأشعر أنه من السهل كتابتها. إذ أن كتابة نهاية مع مأساة أسهل بكثير من كتابتها مع كوميديا.
هناك مقال أفكر به كثيراً لـ(إيتالو كالفينو) اسمه “طيش”, يتحدث فيه عن الطيش كفضيلة في الأدب والسرد القصصي: يجادل بضرورة الطيش ويصر على أننا نحتاجه إذا أردنا الحديث عن الحقائق المظلمة والقاسية. صورة توجيهية من الرقعة هو الطريقة التي لم ينظر فيها فرساوس الى قبح ميدوسا مباشرة ـــ فقط كان يراها من خلال انعكاس صورتها على درعه بدون أن يتسمر مثل حجر في مكانه (كما قال كالفينو: “قوة فرساوس تكمن دائماً في رفض النظر مباشرة, لكن ليس رفض الواقع الذي قُدر له أن يعيش فيه.”) أفترض أن هذا كان جزءا من ما أنوي القيام به في كتابي ــ استكشاف الجرح والخسارة, نعم, وتقديم العجز والاجهاد لأكثر الطرق تقليدية ومسؤولية في الحياة. لكن في نفس الوقت أفكر دائماً باستغراب بعينيّ شيفر الواسعتين, عيناه ألهمتاني البحث مرة أخرى في ذكريات طفولتي بهذه الطريقة, لايجاد تقدير للمستنقعات المتجمدة في مدن كونيتيكت تلك, والقناطر الحجرية لـ(ميريت باركواي), ولجميع أولئك الرجال الذين يرتدون البدلة ويركبون قطارات الخط الساحلي. 
*المصدر: The Atlantic/العالم الجديد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *