*الحاج ولد لحبيب
(ثقافات)
وحيدا فى ضيافة زجاج النافذة المهشم, كان هاجس ألا تأتي يطفو بين لحظة وأخرى, ولعلّي فى تلك اللحظات كنت منهمكا فى إتقان الدور وانتقاء الكلمات المناسبة لقرار عادي جدا بالنسبة لي وأنا سادن معبد الذكورة,تعودت دعس الورود دون أن أكلف نفسي عناء الانحناء ولو لإلقاء نظرة عابرة على ماتبقى من أحلام النساء.
هي الرجولة المباغتة يا هذه,علمتني قتل الأشياء الجميلة بدم بارد وفتح مدن نسائية مكابرة بعنجهية بدوي فاتر العواطف.
كنت أبتلع هذه الأشياء فى انتظارك وأفتح قاموس الردة العاطفية علّي أرسو على كلمات بعينها,متأملا زجاج النافذة المهشم,كان آذار مارس يصفر في الخارج ويعري الأشجار.
فجأة يهز كياني وقع الخطى القادمة وينتابني شعور دخيل بالخوف من اللاشيء ويطوقني الخجل عند منعطف النسيان.
تجلس وتبتسم بتلقائية,فأسايرها بابتسامة من طينة أخرى,لم تعجبها طبعا مع أنها أخذت مني وقفات طويلة أمام المرآة,فلا بد لكل موقف معلب من إبتسامة خاصة وحركات محسوبة ونفاق لا محدود.
تخرج من مكان ما رزمة أوراق وتبدأ فى تدوين بعض الكلمات,فكرت فى كونها تستعد لمقارعتي بالكلمات ورأيتني أسير دون هدى في مسالك وعيها,تائها فى صحراء ملغومة أطارد سرابا ترده العذارى.فجزعت..
لم أكن فى عمر التجارب العاطفية الأولى لأخاف ,كنت مثقلا بإنتصارات كثيرة وهزائم أقل,وحتى فى خضم هذه الهزائم لم يكن للخوف متسع ليقف فى طريقي, كنت أنتقل من معركة خاسرة إلى أخرى رابحة دون أن أتقهقر.
قلت : صباح الخير,ماذا تقرأين؟
أجابت دون أدنى إهتمام “الذباب ,جان بول سارتر”,كان هذا حوارنا الأول فى لقائنا الأول,بعد ذلك كنا نسير معا كعاشقين في مدينة موبوءة تمنعنا الأعراف من أن نمسك أيدي بعضنا البعض ونرمي بعضنا بالثلوج,الطبيعة نفسها لم تمنحنا ثلجا قط.
تدرس الفلسفة وتتعاطى الأدب,إسم جديد في مفكرة حبلى بالمعشوقات”أغلانة”.
يمضي بنا الوهم نحوالنهاية, كنت أعي بعقلية عاشق متمترس خلف الألاعيب أن المسألة مسألة وقت لاغير,فليست هذه المواءمات العابرة سوى وسيلة مواتية لطي الأيام.
بدأت فكرة فض الشراكة تكبر مع كل لقاء حميمي ينتهي بسؤال وجودي أو مشروع لإثراء الساحة الثقافية.
اقترحت علي في إحدى الصباحات الباردة إنشاء نادي جامعي للثقافة,فما كان مني إلا أن مازحتها قائلا”لم لا يكون نادي للبيسبول”.
ضحكت دون أن تدري أني كنت أقول الحقيقة,فقد كنت أفضل نادي للبيسبول أو أي شيء آخر على نادي للوهم…
قالت بجدية هذه المرة”نادي الكلمة الطلابي للإبداع والثقافة”,هززت رأسي إيجابا والتحقت بمحاضرتي.
بعد ذلك بأسابيع كنت أحاضر كمثقف طلائعي أمام جمهور عريض في إحدى القاعات عن أزمة القراءة فى المجتمع,وقد أتقنت الدور للأسف فصرت في إغفاءة من القدر أبرز الواثقين من حناجرهم في الكلية.
ولقد أبدت هي غبطتها الشديدة بعد نجاح موسمنا الثقافي الأول الذي ساهمت خطبي ومحاضراتي في إنجاحه بشكل كبير…
لكن يحدث أن النهايات لا تستأذن,وحدث أن أبوابي كانت مشرعة للنهاية,إذ ضقت ذرعا بالخطب والثقافة وبحب لا يمنح الدفء,وقد كان اقتراحها الأخير كافيا لتعجيل النهاية.
كان ذلك منذ أيام,رسالة هاتفية قصيرة جدا:”الموضوع,الغرائبية في أدب أمريكا اللاتينية…الأسبوع القادم”.
أجبت بعد هنيهة برسالة لن تفهمها أبدا”سأفكر …”.
سأفكر في نهاية مدوية,أتفادى بها نمطية الأفلام والروايات السيئة,فلا يمكن للرجل أن يظل هاربا دوما من اللقاء الأخير.
أعددت العدة لموقف لم أجربه من قبل,كنت أتلاشى في السابق كظل الطلح في يوم حارق لأنهي أحداث حب عاصف,أو في أحسن الأحوال أنهيه على طريقة الغراميات الكلاسيكية,البحث عن خيانة.
لإمرأة تقرأ سارتر وتفكر بثورية لابد من نهاية واضحة كبيان عسكري,كأن أقول مثلا “أنا آسف لم يعد باستطاعتي مواصلة الطريق” أو”عذرا سيدتي فأنا فارغ من الحب والأشياء المخملية” أو أن أقول بكل بساطة “عذرا”,فكلها معاذير تحمل طعم الرجولة عينه بلا أدنى وازع من حب أو ذكريات.
ها أنا الآن أجلس مقابلها تماما,رجل لأمرأة,بيننا رقعة شطرنج استبدلت قطعها بحفنة كلمات,تر كت لها البدء فلي تاريخ سيء مع البدايات.
بعد السلام والسؤال عن الأهل والأصدقاء وآخر القراءات قالت بصوت خافت:”مالجديد؟
كان للسؤال وقع غامض كأنها حركت به كل قطع الشطرنج في حين أنها لم تحرك أي شيء بهذا السؤال المطاطي الذي يحمل أكثر من تأويل,الجديد في علاقتنا,الجديد في مشاريعنا المؤجلة,الجديد والجديد…؟
كنت لأجيب بلا جديد يذكر لكنني تراجعت مخافة أن لا تتاح لي الفرصة مرة أخرى لإنهاء هذه المبارزة,لكنها الرجولة تخونني هذه المرة ككل مرة,فلا كل النهايات التي أعددتها إستطاعت “تشميع”هذا الحب,لا المعاذير ولا الألاعيب القديمة.
ياسيدي إنها إمرأة تجدف بثقة وعزم في بحر من الكلمات,مطيتها في ذلك قراءات معمقة في كل شيء بدءا بكتب الطبخ حتى كتب العدم.نظريات وأكاذيب ولا شيء آخر,وعلى أن الرجولة تقتضي الجسارة في إتخاذ المواقف الحازمة,فإنها تقتضي أيضا عدم الإرتماء في ساحات لم نخلق لها ,ألم تقل هي يوما أن الشجاعة منطقة وسطى بين التهور والجبن, سأبقي فى المنطقة الوسطي مؤقتا,منطقة اللافعل حتى إشعار آخر.
المعاذير تلح, لكنني كنت أخجل,أليس”الاعتذار تقهقرا نظاميا في معركة كلامية خاسرة” والعهدة على أحدهم طبعا,لم أكن أريد معركة خاسرة,سأتوارى كما اعتدت .
كنت أجيب شاردا”لا جديد يذكر”…وكانت تبتسم.
________________
*كاتب موريتاني